هناك فرق واضح بين العمل للإسلام والعمل بالإسلام، وبيان ذلك يكمن في أمرين:
- العمل لإقامة الدين لجعله مطبقا في واقع الحياة داخليا على من يحمل التابعية الإسلامية في دولة الإسلام، وخارجيا بحمله إلى الناس أجمعين عن طريق الجهاد في سبيل الله بمراحله الثلاث: دعوتهم إلى الإسلام، فإن هم أبوا فالجزية والصلح والسلام، فإن هم أبوا فالحرب والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
- التزام المسلمين فرديا وجماعيا بالإسلام وفق ما تقتضيه الأحكام الشرعية، ويشمل العقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق وغير ذلك.
وموضوعنا اليوم متعلق بالأمر الأول وهو العمل للإسلام، ذلك بأن الإسلام قد أُقصي عن التطبيق منذ أكثر من قرن من الزمان بعد هدم دولة الإسلام التي كانت تسمى الدولة العثمانية وهي امتداد للدول التي سبقتها على اختلاف أسمائها عبر التاريخ وصولا إلى العهد المدني من الفترة النبوية دون العهد المكي. أما وقد عدنا إلى ما يشبه العهد المكي، فعلينا أن نتعرف على معالم العمل الإسلامي في ذلك العهد لنعيد قطار المسلمين إلى السكة الصحيحة بعد أن خرج عنها، دون أن ننتقص شيئا من الالتزام بأحكام الإسلام التي نستطيع القيام بها دون الحاجة إلى وجود الدولة وهي الكيان التنفيذي لأحكام الشريعة الغراء.
هكذا بدأ النبي ﷺ العمل للإسلام، منذ أن نزل قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، ليدعو الناس إلى قول لا إله إلا الله وأنه رسول الله، ونبذ عبادة الأصنام وعادات الجاهلية وأنظمة حياتها. فكان الذي يقبل هذه العقيدة الجديدة ينتقل مباشرة إلى العمل للإسلام، ويدعو الآخرين إلى الانضمام إلى منظومة العمل للإسلام، بالرغم من أن الأحكام الشرعية التي تتصل بالعبادات والمعاملات والأخلاق لم يكن قد نزل منها شيء يذكر، فالصلاة مثلا، وهي عمود الدين، قد فرضت في حادثة الإسراء بعد البعثة بسنوات عديدة، والجهاد، وهو ذروة سنام الإسلام، قد فُرض بعد بيعة العقبة الثانية أثناء هجرة المسلمين إلى المدينة وهم في طريقهم لإقامة الدولة الإسلامية الأولى، حيث نزل عليهم قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾. وهكذا معظم أحكام الشريعة الإسلامية قد نزلت في المدينة بعد إقامة الدولة، وانصبت الجهود جميعا على العمل للإسلام قبل أن يتلبّس المسلمون بالعمل بالإسلام.
ومن الجدير بالذكر أن قلة علم المسلمين بالإسلام لم تشكل أي عائق أمام العمل الجاد وتحدي الصعاب التي تقف أمام العمل للإسلام، سواء أكان العمل داخل مكة أم خارجها، فهذا أبو ذر رضي الله عنه قد حمل دعوة الإسلام في قبيلتي غفار وأسلم بما تعلّمه من الرسول ﷺ في أيام قليلة من مكوثه معه، ومع ذلك استطاع أن يُدخل القبيلتين في الإسلام، وليلتحق بدولة الإسلام بعد إقامتها بتسع سنين، ويرفد الدولة الفتيّة بالرجال والمال. وكذلك كان الحال مع زعماء القبائل الذين كان يدعوهم النبي ﷺ لنصرة الإسلام؛ لم يكن يطلب منهم أي التزام بالعمل بالإسلام، ولكن كان يقول لهم: آمنوا بي وانصروني فإن قريشا قد منعتني. حتى قيض الله له النفر اليثربيين من قبيلتي الأوس والخزرج ليبايعوه على نصرة دين الإسلام ولتلتحم الدعوة مع المنعة في بيعة العقبة الثانية، ثم الهجرة فالدولة.
ولم يكن التركيز أبدا على العدد بل كان على النوعية، فعدد العاملين كان قليلا ولكن تأثيرهم كان كبيرا، وذلك لأنهم كانوا يستهدفون عناصر المجتمع المكون من الناس والأفكار والمشاعر والأنظمة، ولم يكترثوا كثيرا بتجنيد الأفراد بل كانوا يُعدون عناصر الكتلة إعدادا قويا ليشكلوا المجتمع بشكلهم، فيؤثروا فيه ولا يتأثروا، ويفعلوا ولا ينفعلوا. ولما أسلم حمزة وعمر رضي الله عنهما، وقد عُرفوا بالقوة في الجاهلية، دخلت الدعوة بانضمامهما إليها في المرحلة العلنية بعد أن كان المسلمون مستخفين في دار الأرقم بن أبي الأرقم.
ومع أن العلماء من حملة الشهادات في مجال الشريعة الإسلامية وأصحاب المنابر والشاشات اليوم هم الأجدر بالعمل للإسلام، كونهم الأكثر معرفة بما يجب أن يكون عليه حال المسلمين كما أراده الله ورسوله، وينبغي أن يكونوا هم الأكثر إحساسا بمآسي المسلمين العميقة، وأنهم الأقدر على التأثير في عملية التغيير باعتبارهم مسموعي الكلمة أكثر من غيرهم، إلا أننا نجدهم أبعد الناس عن العمل الجاد للإسلام، وقد اكتفوا بالعمل بما تيسر لهم من أحكام الإسلام التي تعلموها ويعلمونها للناس ليبقى الحال على ما هو عليه! والأكثر إثارة وغرابة أنهم في بعض الأحيان يكونون سدا منيعا في وجه العاملين للإسلام، يصدون عن سبيل الله من قرر العمل للإسلام، ويبغونها عوجا بنفاقهم للحكام، وتضليلهم للأنام، وتشويههم للحقائق الساطعة.
وختاما فإن العمل للإسلام ينبغي أن يحظى بالأولوية القصوى على جدول أعمال المسلمين جميعا، وألا يدخروا وسعا في دفع عجلته إلى الأمام ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وليعلم الجميع بأننا اليوم نعيش الفرصة التاريخية الثانية والأخيرة للعمل للإسلام، فالأولى كانت للنبي والصحابة فأقاموا دولة الإسلام الأولى في التاريخ، والثانية للعاملين للإسلام اليوم، بإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة والأخيرة في التاريخ وفق حديث النبي ﷺ: «تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً عَاضّاً، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ. ثُمَّ سَكَتَ». علاوة على أن أجر العاملين المتأخرين أعظم من أجر العاملين المتقدمين، مع أفضلية المتقدمين على المتأخرين؛ روى الترمذي في سننه عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ؟ قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيراً، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: «بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحّاً مُطَاعاً وَهَوًى مُتَّبَعاً وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعِ الْعَوَامَّ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّاماً الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: وَزَادَنِي غَيْرُ عُتْبَةَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ: «بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ»، قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
رأيك في الموضوع