نشرت الرئاسة الفرنسية تفاصيل ما أسمته بــ(خريطة الطريق) الخاصة بسوريا، والتي تمّ التوصل إليها بمشاركة قادة فرنسا واليونان وقبرص وسوريا ولبنان، وذلك من خلال قمة خماسية استضافتها العاصمة الفرنسية باريس الأسبوع الفائت، وشارك فيها الرئيس السوري أحمد الشرع عبر تقنية الفيديو عن بعد.
وتتكوّن خريطة الطريق هذه من ستة بنود وهي: رفع العقوبات عن سوريا، وتقديم الدعم الاقتصادي لها، وملف اللاجئين، وترسيم الحدود البحرية، وسيادة سوريا، والتزامات الدولة السورية لتنفيذ الشروط المطلوبة منها.
وأكّدت الخريطة نظرياً على تقديم الدعم الكامل لاحترام سيادة سوريا، بما في ذلك ردع الانتهاكات والتدخلات من الجهات الأجنبية، فدعت إلى انسحاب جميع القوات الأجنبية من الأراضي السورية لكنها لم تذكر كيان يهود بالاسم جبناً وضعفاً.
ورحّب القادة الخمسة المشاركون في القمة بفتح مسار جديد للنقاش حول الوضع في سوريا - بوصفهم دول الجوار لسوريا - شرقي البحر الأبيض المتوسط، وذلك بهدف دعم عملية الانتقال نحو ما يُسمّى بـــ(سوريا موحدة ومستقرة وسليمة).
ولم تعطِ فرنسا في خريطتها لأحمد الشرع شيكاً على بياض، ولم ترفع العقوبات عن سوريا جزئياً إلا بشروط، وقامت باستغلال الضائقة الاقتصادية التي تعاني منها سوريا بفعل العقوبات المفروضة عليها منذ سنوات، ووضعت إملاءات وشروطاً عليها تتمثل بشكلٍ خاص بكيفية معاملة العرقيات الصغيرة، ومُراقبة تصرفات الدولة تجاههم.
وأيّدت الخريطة دعمها لترسيم الحدود البحرية لسوريا على أساس القانون البحري الدولي، مع مراعاة مصالح (جيرانها) الأوروبيين، والمقصود هنا اليونان وقبرص اليونانية.
ويُلاحظ في هذه الخريطة أنّها قد استثنت تركيا من المشاركة فيها نهائياً مع أنّها دولة محورية في سوريا وفي الإقليم، وفي الجوار، وإنّ مجرد استبعاد تركيا يدل على قصر نظر فرنسا في رؤيتها الاستراتيجية، كما يدل على فشلها في التعامل مع القوى الناشئة المهمة في المنطقة، فتركيزها على اليونان وقبرص اليونانية، وهي دول هامشية، بدلا من تركيا، لا يدل على عنصريتها وتعجرفها وحسب، بل يدل أيضا على أنّها ما زالت تعيش ضمن عقلية الهيمنة الأوروبية البالية، مع أنّها تعيش اليوم في زمن باتت تلهث فيه هي وأوروبا كلها خلف أمريكا لتمنحها دوراً ما في إدارة الأحداث في المنطقة، بوصفها مجرد وكيل صغير لأمريكا في مناطق كانت تعتبر في السابق مستعمراتها.
لقد نسيت فرنسا أنّ أمريكا وكيان يهود هما الدولتان الوحيدتان حالياً في المنطقة اللتان باتتا تُقرّران الواقع الجيوسياسي في سوريا ولبنان والشرق الأوسط دون الرجوع إلى فرنسا ولا إلى أوروبا نهائياً، وأنّ تركيا هي الأخرى تُحاول أنْ يكون لها دور ما في سوريا من خلال استعطاف أمريكا وتأمين مصالحها في المنطقة، فتركيا كفرنسا في المنطقة كلتاهما تأخذ تفويضاً من أمريكا للقيام بدورِها فيها، وفرنسا ومن ورائها أوروبا بكليتها لا تملك من نفوذ سوى سلاح العقوبات الذي تستخدمه أمريكا أولاً ثمّ تأتي أوروبا إلى جانبها لتكمل ما بدأته.
فنفوذ فرنسا في سوريا ولبنان بات هشّاً للغاية، وأصبح دورها فيهما تابعاً للدور الأمريكي، فأمريكا هي التي تقرّر، وفرنسا تواليها في تنفيذ قراراتها، وتتابعها وتسايرها في كل ما ترسمه للمنطقة ولها.
فخريطة الطريق هذه إذاً هي اسم كبير تدّعيه فرنسا وتدّعي أنّها هي من ابتكرته لسوريا، لكنّها في الواقع فارغة المضمون تماماً، ولا تعكس واقع القوى الفاعلة في سوريا، فهي خريطة هزيلة لا ترشد إلى أي طريق جدي لسوريا في المستقبل، فليست فرنسا من ترسم خريطة طريق سوريا، بل من يرسمه غيرها قطعاً، ولسوريا اليوم خارطتا طريق فقط، وليست لفرنسا أية واحدة منهما: الأولى خريطة طريق أمريكية، وهي خريطة استكبارية باطلة تضعها أمريكا بوصفها الدولة الأولى في العالم اليوم، والثانية هي خريطة طريق إسلامية حقة تصنعها الأمة الإسلامية، وهي الأقرب للتطبيق في المستقبل القريب، ولا توجد خريطة طريق ثالثة لا فرنسية ولا أوروبية ولا غير ذلك.
ففرنسا التي كانت تأمل من قمّتها هذه أنْ تستعيد جزءاً من ماضيها الاستعماري الزائل، تبيّن لها في الحقيقة أنّها جد واهمة، فهي تخسر الآن نفوذها بشكلٍ متسارع، وتفقد مستعمراتها في أفريقيا الواحدة تلو الأخرى، فقد طُردت من مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد والسنغال وغيرها من الدول الأفريقية، ولم يتبق لها شيء هناك سوى البكاء على الأطلال.
وحتى ألمانيا التي لا تملك أي نفوذ استعماري سابق في بلاد الشام فإنها أصبحت تمتلك اليوم تأثيراً في سوريا أكبر من تأثير فرنسا، وذلك بسبب استقبالها أثناء ثورة الشام مليون سوري على أراضيها، فأوجدت بذلك علاقات مع سوريا بسبب هؤلاء اللاجئين الذين أصبح الكثير منهم يحملون الجنسية الألمانية، ونشأ عن هذه العلاقات نفوذ ألماني في سوريا أكبر من النفوذ الفرنسي بكثير.
على أنّ خريطة الطريق الحقيقية الثابتة والدائمة لسوريا لا يملك مفاتيحها إلا المسلمون، ولا تُوصل إلا إلى غاية واحدة حصراً وهي إقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، والتي لا شك أنّها بقيامها ستكنس كل النفوذ الغربي من بلاد الشام وسائر بلاد المسلمين، بحيث لا يتبقى منه عين ولا أثر.
رأيك في الموضوع