عمَّق ملف المهاجرين الجزائريين المقيمين في فرنسا بطريقة غير قانونية من توتر العلاقات بينها وبين الجزائر التي رفضت استقبالهم، ما دفع وزير الداخلية الفرنسي، برونو روتايو، لتجديد تهديده بالتنصل من اتفاق أبرمته بلاده مع الجزائر عام 1968 رغم ما تعرض له هذا الاتفاق من تعديلات حدًت من الامتيازات التي تخص هجرة الجزائريين وإقامتهم في فرنسا.
وكان رئيس الحكومة، فرانسوا بايرو، قد هدد في نهاية شباط/فبراير بطلب إلغاء الاتفاق إذا لم توافق الجزائر على استقبال رعاياها الموجودين في فرنسا بطريقة غير قانونية، في مهلة مدتها ستة أسابيع.
وجاء تصريح روتايو بعد اتهام باريس لفرنسي جزائري بتقديم معلومات سرية عن معارضين جزائريين مقيمين في فرنسا للمخابرات الجزائرية.
كما تزامنت هذه التهديدات مع تنديد الجزائر بقرار القضاء الفرنسي برفض تسليم وزير الصناعة السابق عبد السلام بوشوارب، المتهم في بلاده بملفات فساد واختلاسات كبرى خلال عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، والذي غادر الجزائر إلى فرنسا عام 2019 مع بدء فتح ملفات الفساد الكبرى التي أطاحت بعدد من كبار المسؤولين.
وبالمقابل نددت فرنسا باعتقال الكاتب الفرنسي الجزائري، بوعلام صنصال، الذي يقبع في السجن منذ 16 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 بسبب تصريحات صحفية أطلقها في فرنسا، حيث قال بأن "أجزاء كبيرة من غرب الجزائر تعود إلى المغرب"، وأن قادة الاستعمار الفرنسي "كانوا سبباً في اقتطاعها مرتكبين بذلك حماقة". كما قال إن بوليساريو التي تطالب باستقلال الصحراء عن المغرب، "من صنع الجزائر لضرب استقرار المغرب". وتزامنت أزمة صنصال مع أزمة كاتب فرنسي جزائري آخر، هو كمال داوود.
وكان يمكن أن تمر قضية صنصال دون أن تسهم بمزيد من التصعيد مع فرنسا، لولا ما نسبته وسائل إعلام فرنسية للرئيس ماكرون، بأنه "قلق" من اعتقال مؤلف رواية "قرية الألماني" الشهيرة (2008)، وبأنه يعتزم التدخل لدى السلطات الجزائرية لإطلاق سراحه.
وكانت العلاقات بين البلدين متوترة بما فيه الكفاية منذ الصيف الماضي، عندما سحبت الجزائر سفيرها من باريس؛ احتجاجاً على اعترافها بخطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء، وحينها شجبت "قيام حلف بين الاستعمار القديم والجديد"، وتقصد البلدين، علماً أن العلاقات بين العاصمتين المغاربيتين مقطوعة رسمياً منذ 2021.
ولا تبدو هذه الخلافات التي تتمحور عموما حول ملفات الذاكرة وجرائم الاستعمار والتعاون الأمني والهجرة، هي السبب الرئيس في التوتر الحاصل بين البلدين؛ ففي ملف الهجرة مثلا يعتبر قبول الجزائر لقرارات الإبعاد من الأراضي الفرنسية تعادل نظيرتها في دول أخرى مثل المغرب وتونس. فضلا عن أن من أثار هذا الملف هو اليمين المتطرف العدو التقليدي للمهاجرين، وهو ما حدا بالرئيس الجزائري عبد المجيد تبون للتقليل من أهمية هذه التهديدات في تصريح له السبت 22 آذار/مارس على القنوات الجزائرية بقوله "هناك فوضى عارمة وجلبة سياسية (في فرنسا) حول خلاف تم افتعاله بالكامل"، مضيفا: "نعتبر أن الرئيس ماكرون هو المرجع الوحيد ونحن نعمل سويا".
وبخصوص زيارات المسؤولين الرسميين الفرنسيين إلى الأراضي الصحراوية، التي تعتبرها الجزائر محتلة من المغرب، أوضح تبون أن هذه الزيارات "ليست استفزازا" واسترسل قائلا: "لسنا مغفلين، فنحن نعلم تماما أن مسألة الحكم الذاتي فرنسية قبل أن يتولى جيراننا من الجهة الغربية الدفاع عنها"، مضيفا أن "فرنسا والمغرب يتفقان جيدا وهذا أمر لا يزعجنا، إلا أن المشكل يكمن في طريقة التباهي تلك، فهي تضايق الأمم المتحدة والشرعية الدولية".
إن ما يقلق فرنسا حقا هو انحسار نفوذها التقليدي في أفريقيا بعد انسحاب قواتها العسكرية من مالي والنيجر وبوركينافاسو وتشاد والسنغال، وهي تناور من أجل المحافظة على مصالحها الحيوية في الجزائر بعدما اضطر أزلامها في الجيش الجزائري للتنحي عن الحكم لصالح رجل بريطانيا بوتفليقة، بعدما أوغلوا في دماء أهل الجزائر أثناء العشرية السوداء في تسعينات القرن الماضي والتي راح ضحيتها 250 ألف جزائري، جراء تدخل الجيش لإبطال نتائج انتخابات 1991 التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، حيث استقال الرئيس الشاذلي بن جديد ودخلت البلاد في حرب دموية استمرت عشر سنوات، وشارك في تلك المجازر طيارون فرنسيون وأزلام فرنسا في الجيش وعلى رأسهم الجنرال خالد نزار الذي كان ضابطا بالجيش الفرنسي زمن الاستعمار، والجنرال توفيق صانع الرؤساء والجنرال محمد التواتي والجنرال محمد العماري الذي كان شعاره في العشرية السوداء "لا أريد أسرى، لا أريد جرحى، أريد قتلى"، وللعلم فإن هؤلاء الجنرالات لم يلتحقوا بثورة التحرير التي امتدت بين 1954 و1962 إلا أواخر 1961، أي أشهر قبل انتصارها، وهو ما دفع البعض لاتهامهم بأنهم خلية فرنسية لاختراق ثوار الجزائر.
وقام بوتفليقة بمصالحة وطنية للملمة الجراح وبقي يحكم طوال عشرين عاما، إلى أن أسقطه حراك شعبي غير مسبوق عم البلاد عام 2019، وخرج رافضا لعهدة خامسة. ليخلفه عبد المجيد تبون (الذي شغل منصب رئيس وزرائه سنة 2017) إثر فوزه في انتخابات نظمها الجنرال أحمد قايد صالح الذي توفي بعيد الانتخابات مباشرة، وبذلك استطاعت بريطانيا المحافظة على نفوذها مع بقاء رجالات فرنسا بالجيش والأوساط الفكرية والثقافية، مفشلين بذلك حراكا كان سيكنس النفوذ الأوروبي من الجزائر حيث كان شعاره "قاع" أي فليرحلوا جميعا.
ولذلك فإن فرنسا تثير بعض الملفات كملف الهجرة، مستغلة وجود اليمين المتطرف في الحكومة للضغط على الجزائر من أجل عدم المساس بمصالحها ونفوذها، خاصة في ظل التحولات السياسية والثقافية الكبيرة التي تشهدها الجزائر، حيث تسعى لتقليص الاعتماد على اللغة الفرنسية التي طالما ارتبطت بالإرث الاستعماري. وتسير منذ سنوات نحو تعزيز استخدام اللغتين العربية والإنجليزية في التعليم والمؤسسات الرسمية، وهو ما ظهر جلياً في إدخال الإنجليزية ضمن المناهج الدراسية في المدارس والجامعات، أو في المبادرة التشريعية التي يعتزم بعض النواب تقديمها للبرلمان وتهدف إلى إلغاء إصدار الجريدة الرسمية باللغة الفرنسية، وحصر نشر النصوص التشريعية والتنظيمية باللغة العربية فقط، وهو ما اعتبرته فرنسا خطوة نحو تقليل نفوذها الثقافي في البلاد، وقد أثار هذا التحول استياءها، حيث ترى فيه تراجعاً لنفوذها التقليدي.
هذا بالإضافة إلى تراجع العلاقات الاقتصادية بين البلدين نتيجة لخطة الجزائر في البحث عن شركاء جدد كالصين مثلا، يتعاملون معها وفقاً لمبدأ تحقيق الربح المشترك، وتخشى فرنسا أن يتم المساس بمصالحها الحيوية من إمدادات الطاقة، خاصة مع تزايد الاعتماد على النفط والغاز الجزائريين منذ الغزو الروسي لأوكرانيا.
ففرنسا تأتي في المرتبة الثانية ضمن قائمة أكبر الدول المستوردة للنفط والغاز المسال الجزائري في عام 2024، وأيضاً خلال شهرَي كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير من عام 2025، وهي تأتي في صدارة الدول الأوروبية المعتمدة على الغاز المسال، بحجم واردات بلغ 18.52 مليون طن في عام 2024، ولذلك ستتزايد ضغوط فرنسا كلما أحست بخطر المساس بمصالحها الحيوية.
إن بلدا مثل الجزائر قدم أهله ملايين الشهداء في مقارعة الاستعمار الفرنسي ويزخر بالطاقات البشرية والطبيعية والتاريخ الإسلامي المضيء لقادر اليوم على كنس النفوذ الأجنبي بكل أشكاله وأركانه ليكون نقطة ارتكاز لمشروع الأمة في الشمال الأفريقي بإقامة الخلافة الراشدة على أنقاض الحكم الجبري، صنيعة الاستعمار.
رأيك في الموضوع