قررت الهيئة العليا للانتخابات في تونس، ترشيح كل من الرئيس الحالي قيس سعيّد، ومرشحين اثنين آخرين، هما زهير المغزاوي، والعياشي زمال لخوض الانتخابات الرئاسية المقررة في 6 تشرين الأول/أكتوبر المقبل، بعدما رفضت يوم الاثنين 2 أيلول/سبتمبر، تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية بإعادة ثلاثة مرشحين بارزين، إلى السباق الانتخابي هم مُنذر الزنايدي (أحد وزراء منظومة ما قبل الثورة)، وعبد اللطيف المكي، وعماد الدايمي (مقربان من حركة النهضة)، وقد كانت الهيئة الانتخابية أسقطتهم أولياً بدعوى عدم استيفائهم للشروط.
يأتي هذا القرار في وقت اعتقلت فيه الشرطة المرشح الرئاسي، العياشي زمال، ما دفع المعارضة وعلى رأسهم حركة النهضة بالتنديد بقرار إقصاء مرشحين بارزين وترهيب آخر، "في محاولة لفرض انتخابات غير ديمقراطية معلومة النتائج مسبقا" حسب بيان لحركة النهضة يوم الخميس 5 أيلول/سبتمبر، كما حذر في اليوم نفسه عشرات من أساتذة القانون البارزين وعمداء كليات الحقوق التونسية في بيان من أن الانتخابات الرئاسية مهددة بفقدان شرعيتها ومصداقيتها إذا لم تُعِد الهيئة العليا للانتخابات ثلاثة مرشحين إلى السباق تنفيذاً لقرار أعلى هيئة قضائية تفصل في النزاعات الانتخابية.
يأتي هذا القرار بعد أسبوع من هجوم الرئيس قيس سعيد على معارضيه واتهامهم بالارتماء في أحضان الخارج خلال إشرافه على تأدية اليمين الدستورية لأعضاء الحكومة الجدد، في أكبر تحوير وزاري منذ سيطرته على الحكم في 25 تموز/يوليو 2021. والجدير بالذكر أن هذا التحوير قد طال وزير الدفاع عماد مميش ووزير الفلاحة أمير اللواء عبد المنعم بالعاتي، وهو متفقد عام للقوات المسلحة في وزارة الدفاع، واستبعاد مستشاره الجنرال العسكري مصطفى الفرجاني في خطوة وصفها البعض بأن العلاقة بين الرئيس سعيد والجيش ليست على ما يرام، وهو ما تروجه المعارضة التي أصبحت تغازل الجيش وتطلب منه التصدي لجموح الرئيس للسيطرة على الحكم وإقصاء كل منافس جدي في الانتخابات الرئاسية.
حديث الرئيس سعيّد عن حَربِ تحرير ضد الفاسدين والمرتبطين بالخارج، يكشف عن الصراع الدولي المحموم على النفوذ في تونس، فالرئيس قيس سعيّد أطاح بعملاء بريطانيا وبكل الركائز التي كانت تعتمد عليها في الإمساك بالبلاد بدعم فرنسي واضح بعد زيارته الشهيرة لها في 22/06/2020، ولا زال هذا الدعم قائما ما دامت مصالحها محفوظة والأوضاع مستقرة، أما تنديد الاتحاد الأوروبي (فرنسا وألمانيا) بما اعتبره "إجراءات مناهضة للديمقراطية" اتخذتها السلطات التونسية مؤخرا بتوقيفها مرشحا للرئاسة وإقصائها ثلاثة مرشحين آخرين، فهو يخدم الرئيس سعيّد ويقوي سردية ارتباط خصومه بالخارج، فالاتحاد الأوروبي وقّع السنة الماضية مع الرئيس قيس سعيد مذكرة تفاهم لإرساء "شراكة استراتيجية وشاملة" في التنمية والطاقات المتجدّدة ومكافحة الهجرة غير النظامية مقابل حزمة مهمة من المساعدات، وتم تعزيز هذه الشراكة باتفاقيات أبرمت في شهر حزيران/يونيو 2024، لدعم الشراكات وبرنامج الإصلاح الذي تنفذه الحكومة.
أما ما يُرَوّج من تدهور العلاقة بين الرئيس سعيّد والجيش فلا يعدو أن يكون خلافا عرضيا بينه وبين وزير الفلاحة حول التعاطي مع قضية شح المياه وانقطاعها، فالقيادات العسكرية الأخرى وعلى رأسهم رئيس الاستخبارات العسكرية الفريق أول الحبيب الضيف وقائد أركان جيش البر اللواء محمد الغول لا يزالان في صفه، وأما مستشاره الجنرال مصطفى الفرجاني فقد تمت ترقيته إلى أعلى رتبة عسكرية وتعيينه وزيرا للصحة وتكليفه بالإشراف على أهم مشروع يروج له الرئيس قيس سعيّد وهو إنشاء مدينة استشفائية بالقيروان، ومع أن الرئيس سعيّد غير مرارا وتكرارا وزراء ومسؤولي وقيادات وزارة الداخلية إلا أن هذا لم يحدث البتة مع القيادات العسكرية العليا لحد هذه الساعة.
العقبة الكأداء التي تقف أمام الرئيس قيس سعيد تكمن في الوضع الاقتصادي الهش والديون المتراكمة التي أثقلت كاهل البلاد، وامتناع المقرضين الدوليين عن منح تونس قروضاً تخرجها من ضائقتها المالية، وذلك بضغط من صندوق النقد الدولي، ورغم أن السفير الأمريكي جوي هود نفى في وقت سابق أن تكون أمريكا هي من دفعت صندوق النقد الدولي للتراجع عن قرض كان قد تم الاتفاق عليه على مستوى الخبراء في تشرين الأول/أكتوبر 2022، ورغم نفيه مؤخرا أن يكون من بين السفراء الذين دعاهم وزير الشؤون الخارجية بطلب من الرئيس قيس سعيد للاحتجاج على تدخل بلدانهم في الشأن الداخلي التونسي، إلا أن محاولات أمريكا النفاذ إلى الأوساط الفاعلة في تونس تؤكده الوقائع، فالاتصالات الأمريكية ببعض السياسيين ورجال الأعمال والإعلاميين ونشطاء ما يسمى المجتمع المدني دفع الرئيس قيس سعيد لشن حملة اعتقالات طالت العديد منهم على مدار السنة المنقضية.
ما يلفت الانتباه أنه بعد ثلاثة أيام من حديث سعيّد عن حرب التحرير ضد الفاسدين والمرتبطين بالخارج زار تونس يوم الأربعاء 28 آب/أغسطس قائد أفريكوم الجنرال الأمريكي مايكل لانغلي والتقى بوزير الدفاع الجديد خالد السهيلي وصرح بأن تونس في طليعة البلدان الأفريقية التي تربطها بأمريكا علاقات تعاون متميزة وتاريخية، مبدِيا استعداده لمزيد تطويرها وتنويع مجالاتها، وهو ما يؤكد الاهتمام الأمريكي المتزايد بتونس ويؤكد أن المساعدات العسكرية المسمومة للجيش التونسي ليست سوى رشوة لربط تونس ربطا محكما من خلال الاتفاقيات الأمنية والعسكرية التي جعلت من تونس قاعدة عسكرية متقدمة للجيش الأمريكي.
الشمعة المضيئة في كل هذا أن قسما عريضا من الشعب التونسي قاطع الانتخابات التشريعية الأخيرة التي لم تتجاوز نسبة المشاركة فيها 11%، لإدراكه أن أنظمة الحكم القائمة في بلادنا ومنها تونس ليست موجودة إلا بقرار من الدول الغربية باعتبارها تشكل الضمانة لبقاء البلاد والعباد تحت هيمنتها.
سوف يمضي الرئيس قيس سعيد في الإمساك بالحكم وسيستمر الصراع العبثي مع خصومه إلى أن تفاجئهم حركة تحريرية حقيقية تقطع أيادي الغرب وتمحو أي أثر له من بلادنا، لتجعل من أرض الخضراء منطلقا جديدا لمشروع الأمة، الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
رأيك في الموضوع