بُعَيْدَ الإطاحة بحكومة هشام المشيشي في 25 تموز/يوليو 2021 وسيطرة الرئيس قيس سعيد على الحكم، استأنفت تونس مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على تمويل بمتوسط 4 مليارات دولار لتغطية عجز الميزانية الذي يزيد على 9%، وقد عرضت خلالها حكومة الرئيس برنامجاً يشمل إجراءات مؤملة، وهو ما دفعها لعقد اتفاق مؤخرا مع الاتحاد العام التونسي للشغل، يشمل زيادة في الأجور تقدر بـ5% على مدى السنوات القادمة، من أجل امتصاص غضب الشارع الذي ضاق ذرعا من زيادات الأسعار وندرة السلع الغذائية الحيوية في المتاجر.
وقالت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني يوم الجمعة 16/9/2022م إن اتفاق الأجور الذي أبرمته الحكومة مؤخرا مع الاتحاد العام التونسي للشغل من شأنه أن يقرّب من إعلان اتفاق بين البلاد وصندوق النقد الدولي على برنامج إصلاح يرافقه تمويل، والاستنتاج نفسه عبرت عنه بعد المصادقة على دستور الجمهورية الثالثة للرئيس قيس سعيد في استفتاء 25/7/2022م الذي لم يشارك فيه إلا 27% ممن يحق لهم التصويت من الشعب التونسي.
وكان صندوق النقد الدولي قد أشار في وقت سابق إلى أنه لن يمضي قدما في خطة التمويل التي تسعى إليها تونس ما لم يوافق عليها اتحاد الشغل، الذي يقول إنه يضم أكثر من مليون عضو وأثبت قدرته على إغلاق قطاعات رئيسية من الاقتصاد بالإضرابات، وهو ما يؤكد الدور القذر الذي يلعبه الاتحاد في دعم الأنظمة الوظيفية، فالاتفاق الذي تم توقيعه يوم الخميس الماضي بين الحكومة واتحاد الشغل لن يغير شيئا على مستوى المقدرة الشرائية ولن يواجه ارتفاع نسبة التضخم ولكنه أساسا كان لتسهيل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
وهو ما دفع المتحدث الرسمي باسم الحكومة نصر الدين النصيبي للقول متفائلا لراديو إكسبريس إف إم، يوم الجمعة الفائت إن "فريق التفاوض التونسي كان على اتصال أمس مع صندوق النقد الدولي بخصوص البنود الأخيرة للاتفاق مع الصندوق". وصرح قائلا: "نأمل في التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد قبل نهاية تشرين الأول/أكتوبر المقبل حتى تتمكن تونس من الوفاء بجميع التزاماتها بما في ذلك توفير السلع الغذائية ومنتجات الطاقة ودفع الأجور وخدمة الدين".
يبدو إذاً بعد الاتفاق الذي أبرمته الحكومة مع الاتحاد التونسي للشغل أن تونس أصبحت أكثر من أي وقت مضى في مرمى صندوق النقد الدولي، خاصة وأن حكومة الرئيس قدمت له حزمة من الإجراءات التي عجزت عن تطبيقها الحكومات السابقة، فالصندوق والمانحون الأجانب الرئيسيون يريدون من تونس أن تمضي قدما في تفكيك منظومة الدعم، وإعادة هيكلة الشركات المملوكة للدولة، فضلا عن خطوات للسيطرة على فاتورة أجور القطاع العام وتعويم العملة ولو جزئيا، وهو ضمن الخطة المقدمة من الحكومة. ولا يقف أمام هذا الاتفاق إلا الضوء الأخضر الأمريكي الذي له التأثير الكبير على قرار المانحين وخاصة صندوق النقد الدولي.
لقد ضغط صندوق النقد الدولي على المانحين وفرض عليهم عدم إعطاء تونس قروضاً إلا بعد عقد اتفاق مع الصندوق، وهو ما أكده أكيهيكو تاناكا رئيس الوكالة اليابانية للتعاون الدولي بعد اختتام "تيكاد 8" الشهر الماضي، حيث قال "إن تقديم اليابان مساعدات مالية لتونس مشروط بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي"، والشيء ذاته قاله سفير اليابان شينسوكي شيميزو، في تصريح سابق لأفريكان مانجر.
والصندوق يتناغم في ذلك مع القرار الأمريكي، فمنذ إطاحة قيس سعيد برجالات بريطانيا في الحكومة والبرلمان بمساعدة فرنسية، ازدادت ضغوط أمريكا على تونس من أجل القيام باختراق للوسط السياسي بعد أن استطاعت اختراق منظمات ما يسمى بالمجتمع المدني وعقد اتفاقيات عسكرية لعشر سنوات تمكن جيشها "أفريكوم" من استخدام تراب تونس ومياهها وأجوائها، حيث توقفت أمريكا منذ انقلاب سعيد عن تقديم ضمانات تمكن تونس من الاقتراض الثنائي.
لن تخرج تونس من أزماتها الاقتصادية الخانقة عن طريق القروض الخارجية لأن في ذلك ضرراً محققاً على استقلاها وقرارها السياسي، فطريق القروض الخارجيّة للتّمويل كانت في السّابق طريقا للاستعمار المباشر للبلاد، فعن طريقها وصل الفرنسيون لاستعمار تونس، وهي اليوم طريق أساسي لبسط النّفوذ والتآمر على البلاد ولا تُنتج غنى، فالمؤسسات المالية وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليان هي مؤسسات استعمارية للدول الكبرى للتدخل في شئون دول العالم بإغراقها في دوامة الديون وفرض التبعية الاقتصادية عليها، فقد تراكمت الديون وازداد الفقر وتضاعفت المشاكل حيثما حلت، وبلدنا تونس خير شاهد على ذلك، فحسب توقعات وزارة المالية للسنة الحالية بلغ الدين العمومي 114.1 مليار دينار (38 مليار دولار) مقارنة بـ103.6 مليار دينار (34.5 مليار دولار) سنة 2021، و93 مليار دينار (31 مليار دولار) سنة 2020، و83.3 مليار دينار (27.7 مليار دولار) سنة 2019، والخطير في الأمر أن أكثر من ثلثي هذه الديون مستحقة لجهات خارجية، وقد اتخذ صندوق النقد الدولي هذه الديون أداة لفرض شروطه على تونس: من تقليص كتلة الأجور ورفع الدعم عن المواد الأساسية والطاقة، والتخفيض في قيمة الدينار، والتقشف في الإنفاق الحكومي، وزيادة الضرائب، وخصخصة الملكية العامة والتفويت فيها للأجنبي، والتدخل في الجانب التشريعي والثقافي والسياسي وما ترتب على ذلك من تبعية سياسية مطلقة وتدهور على مستوى المعيشة والقيم المجتمعية.
إنّ سبيل الخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها تونس، يكون بقطع الصلة مع الدول والمؤسسات المالية الاستعمارية كالبنك وصندوق النقد الدوليين، واعتماد الدولة في موازنتها على مصادرها الذاتية ورفض الاستجابة للضغوط الدولية ورفض المساعدات الدولية وقروض بنوكها، وهو ما يؤدّي إلى امتلاك الدولة لقرارها، فتتخذ القرار الصائب وهو استبدال نظام الإسلام بالنظام الرأسمالي والاعتماد على مصادرنا الذاتية وثرواتنا الطبيعية واستثمار الطاقات البشرية الموجودة في تونس من خلال مشاريع إنتاجية زراعية وصناعية تأخذ بيد البلاد نحو التصنيع الحربي والثقيل والذي من شأنه تغيير وجه البلاد. وذلك بالاهتداء بأحكام الإسلام ونظامه الاقتصادي الفريد.
رأيك في الموضوع