كان ترامب قد هدد بفرض ضرائب جمركية على البضائع المستوردة من أغلب دول العالم بما فيها أوروبا والصين والشرق الأوسط. وما إن جاء الثاني من شهر نيسان والمعروف في أمريكا بيوم التحرير، حتى وقع على القرار الرئاسي الخاص بفرض ضرائب جمركية وصل بعضها إلى أكثر من 50% من قيمة البضائع. وقد واجهت كثير من الدول هذا العمل بفرض ضرائب على المستوردات الأمريكية بالمثل أو زيادة. ونقف هنا عند محطات رئيسة في هذا المجال.
1- الناحية المبدئية: لقد عملت أمريكا منذ عقود عدة على عولمة الرأسمالية المحلية، بحيث تصبح حرية التجارة، والاستثمار، ونقل الأموال، متاحة على مستوى العالم وليس على مستوى القطر فقط. وسعت بكل ما أوتيت من قوة لإزالة القيود عن حركة البضائع والأموال بين الدول، وأوجدت لذلك مؤسسات تكفل حرية التجارة. ظنا منها أن الحركة الطبيعية لمثل هذه العولمة هي انتقال البضائع والمنتوجات من الشمال والغرب إلى الجنوب والشرق، وانتقال المال والثروات من الجنوب والشرق إلى الشمال والغرب. وقد كانت العولمة الأمريكية إحدى مخرجات الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي الذي انهار سنة 1991. وبعد انهياره بدأت إرهاصات ظهور الصين كقوة تجارية جاذبة للصناعات البسيطة والمعقدة، والقادرة على تزويد العالم بما فيه أمريكا بالمنتجات والاحتياجات اليومية في جميع مناحي الحياة. إلى أن أصبحت الصين ودول أخرى مثل كوريا واليابان وكثير من دول أوروبا وأمريكا اللاتينية تتمتع بمقدرة على الإنتاج والتصدير مستفيدة من انخفاض سعر الإنتاج لديها مقارنة مع أسعار الإنتاج في أمريكا، ما أدى إلى عكس حركة المال والبضائع، لتصبح أمريكا أكبر مستورد للبضائع من شتى دول العالم وأكثرها الصين. فانقلب السحر على الساحر، واضطرت أمريكا أن تعمل على هدم صنم العولمة الذي بنته بيديها.
2- أزمة الدين الأمريكي: تواجه أمريكا خطر زيادة الدين المترتب على الدولة سواء الدين الداخلي أو الخارجي. حيث بلغت النسبة الربوية المترتبة على ديون أمريكا إضافة إلى قيمة خدمة الدين حوالي 13% من قيمة حجم الموازنة السنوية، أما القيمة الكلية للديون الأمريكية فزادت عن 32 تريليون دولار وهو ما يعادل تقريبا 100% من قيمة الدخل القومي الإجمالية. أمام هذه الحقائق الصاعقة، لم يجد رئيس أمريكا من مخرج يحسن من صورته وأدائه أمام الجمهور الذي انتخبه غير العملية القيصرية التي بها يجلب ما قيمته 800-900 مليار دولار سنويا ليتم دفع العوائد الربوية وخدمة الدين دون أي عناء يذكر من جهة، ومن جهة أخرى يستمر بتخفيض الضرائب عن كبار الرأسماليين الذين ساندوه في حملته الانتخابية. فبدل أن يرفع الضرائب لتغطية قيمة مدفوعات الديون كما هي العادة، قرر فرض الضرائب على الدول. وهو حل ترقيعي مؤقت، حيث إن دين أمريكا يزداد بشكل مضطرد. إلا أن ترامب قرر أن يرحل مشكلة رفع قيمة الضريبة على كبار الرأسماليين إلى من سيأتي للبيت الأبيض بعد 4 سنين. والحقيقة أن أمريكا دخلت في مرحلة صعبة جدا من الناحية المالية، حيث إن القيمة الإجمالية لديونها أصبحت تساوي قيمة الدخل القومي وزيادة كما هو موضح في الجدول التالي. ما يعني أن ما قام به ترامب من رفع قيمة الضرائب الجمركية لا يحل المشكلة الكبرى المتعلقة بزيادة الدين العام، وزيادة قيمة الربا وخدمة الدين المضطردة، ولا ينفع إلا في إثبات مصداقيته لكبار الرأسماليين الذين ساعدوه في كسب ثقة الدولة العميقة ليحظى برئاسة ثانية.
السنة |
قيمة الناتج القومي |
قيمة ديون الدولة |
نسبة الدين للناتج القومي |
2020 |
$21.46 |
$28.15 |
131% |
2021 |
$23.83 |
$29.49 |
124% |
2022 |
$26.23 |
$30.85 |
118% |
2023 |
$27.58 |
$32.91 |
119% |
2024 |
$29.80 |
$35.46 |
119% |
2025 |
$31.40 |
$37.65 |
120% |
2026 |
$33.00 |
$39.91 |
121% |
2027 |
$34.70 |
$42.10 |
121% |
2028 |
$36.50 |
$44.39 |
122% |
3- التسريع في كساد الاقتصاد الأمريكي والعالمي: إن حرب الضرائب الجمركية المتبادلة يؤدي حتما إلى ارتفاع الأسعار وتكاليف الحياة اليومية، وتكاليف الصناعات في أمريكا نفسها وفي الدول التي ستقوم برفع الضرائب الجمركية في المقابل، ما يؤدي إلى زيادة غير مسبوقة في التضخم المالي ليس في أمريكا وحدها بل على مستوى العالم أجمع. ولما كانت الوسيلة المثلى للتقليل من آثار التضخم هي عملية التيسير الكمي الذي يؤدي إلى تصريف الأموال إلى خارج الحدود، فإن هذه العملية لن تجدي نفعا حيث إن دول العالم أجمع ستعاني في الوقت نفسه من ارتفاع في قيمة التضخم. ما يعني أن التيسير الكمي للدولار لن يجد له مكانا يسير إليه، وكذا اليورو والجنيه والوان الصيني والين الياباني. ما يؤدي إلى ركود عام على مستوى العالم، ما يؤدي بشكل طبيعي إلى كساد يشبه ما حصل قبيل الحرب العالمية الثانية سنة 1929، فعمل ترامب هذا من شأنه أن يؤدي إلى كساد عالمي محقق.
والسؤال المهم هنا: ألا يدرك ترامب وكوكبة الاقتصاديين أن مثل هذه الخطوة فيها خطورة كبيرة على الاقتصاد المحلي والعالمي حين يدخل في كساد، وأن الكساد على هذا الوجه قد يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار على مستوى العالم والذي قد يؤثر على السلم والسلام العالمي؟ بالطبع يدركون ذلك. ولا أظن أن مثل هذا يخفى على المحللين السياسيين الاقتصاديين. وهذا يقودنا إلى السؤال التالي: ماذا تقصد أمريكا وما الذي تريده من دفع الاقتصاد العالمي برمته إلى كساد محقق؟ الإجابة على هذا السؤال تقتضي إدراك آفاق الصراع العالمي ومحاولة خلق نظام عالمي جديد ذي مزايا ومعالم جديدة. ولا يتسع المقام في هذا المقال إلى الولوج في هكذا قضية.
رأيك في الموضوع