أنهى الحزب الديمقراطي في أمريكا مؤتمره بعد أربعة أيام من الكلمات والخطب والمسارح الغنائية وتوجه بترشيح السيدة كمالا هاريس لخوض انتخابات الرئاسة في شهر تشرين الثاني 2024 بدلا من الرئيس الحالي بايدن والذي كان قد انسحب لصالح كمالا هاريس بعد ضغوط شديدة من الحزب الديمقراطي.
لا تزال أمريكا تولي أهمية كبرى للمظهر الديمقراطي للحكم من خلال الانتخابات التي تجريها باستمرار لانتخابات مجلسي الشيوخ والنواب وحكام الولايات والانتخابات الرئاسية. إلا أنه لا يخفى على كثير من المتابعين السياسيين أن القضايا الاستراتيجية والحيوية تتم صياغتها وإنتاجها في دوائر خاصة لا تخضع لمعادلات الفوز والخسارة في الانتخابات، والذي بات يعرف رسميا باسم الدولة العميقة، التي هي عبارة عن مؤسسات ومراكز تم بناؤها على مدى عقود من الزمن تعمل باستمرار على وضع التصورات والسياسات الخاصة بالقضايا الحيوية والاستراتيجية التي تحافظ على مكانة أمريكا على المسرح الدولي، والتي تمكنها من المحافظة على نفوذها على المستويين الدولي والإقليمي. ومع ذلك فهناك هامش واسع فيما يتعلق بالسياسات التكتيكية أي المتعلقة بتنفيذ السياسات والخطط، بالإضافة إلى كثير من القضايا المحلية التي تشغل الرأي العام الداخلي. ولا شك أن هذا الأسلوب في ضبط مسيرة الدولة الأمريكية يعتبر من الأساليب الذكية التي تحافظ على مسيرة الدولة وسيادتها ونفوذها ما يمكن أن ينتج عن وصول أشخاص غير مناسبين لسدة الحكم. ومن هنا تمكنت أمريكا من المحافظة على الوسم الديمقراطي لحكوماتها، وفي الوقت نفسه عدم السماح للإفرازات الديمقراطية السيئة أن تعصف بأمريكا وتزحزحها عن مكانتها.
ومما يلفت النظر أن أمريكا اعتادت أن لا تغير القيادة العليا إذا كانت هناك قضية دولية نشطة أو قضية إقليمية مهمة قيد العمل، إلا إذا وصلت مثل هذه القضايا إلى نهايتها سواء نجحت فيها أو فشلت.
فمثلا تميزت فترة ترامب من الناحية الدولية بالعمل على جلب الصين لحرب باردة مصطنعة بين البلدين، إلا أن الصين رفضت بشكل حاسم أن تكون شريكا في حرب باردة، وهي تعلم أن أمريكا تريدها للحفاظ على هيمنتها الدولية. فقد ورد على لسان وزير خارجية الصين وانغ وي قوله في مقابلة يوم 5/8/2020 مع وكالة شين-هو الصينية "إن الصين ترفض أي محاولة لخلق ما يسمى بحرب باردة". وقد عاد رئيس الصين شي ليؤكد على هذا الموقف في 17/1/2022 بقوله "الصين ترفض عقلية الحرب الباردة التي تسعى لها أمريكا". لذلك كان على أمريكا أن تتخلى عن محاولة جلب الصين لحرب باردة لتتخذها مطية لاستمرار هيمنتها على الموقف والعلاقات الدولية. فكان أن عملت الدولة العميقة على تغيير القيادة وعدم تمكين ترامب من الاستمرار في الحكم، ليس من باب عدم صلاحيته ولكن من باب أن مهمته لم تنجح بسبب تعنت الصين. وقد ألمح ترامب إلى ذلك في انتخابات 2020 بقوله "إن الدولة العميقة هي التي أعاقت إعادة انتخابي".
أما الآن فإن أمريكا منهمكة بقضية دولية تتعلق بالمحافظة على بقاء أوروبا تحت الهيمنة الأمريكية بعد أن خطت خطوات كبيرة في مسيرة بناء الاتحاد الأوروبي وتقويته. وقد اتخذت من الحرب الروسية الأوكرانية أداة لإحكام القبضة الأمريكية على أوروبا ومنعها من العودة للمسرح الدولي، حيث كان بايدن قد رد على الجمهوريين بقوله "هؤلاء لا يفهمون السياسة الخارجية، ولا يدركون أن المقصود والمعني في حرب أوكرانيا هي أوروبا والناتو". ومن قبله قال توماس فريدمان في مقال له في نيويورك تايمز "لقد أخطأت حين ظننت أن حرب روسيا هي حرب في أوكرانيا. الحرب ظاهرها أوكرانيا وحقيقتها موجهة لأوروبا".
ومن كل ذلك يتبين أن أمريكا قد دخلت في قضية دولية استراتيجية وهي قضية ساخنة ودموية، وليس من مصلحة أمريكا تغيير دفة القيادة إلا إذا أرادت أن تعدل عن هذه السياسة التي تفضي إلى إخضاع أوروبا للناتو وعدم السماح لها بتشكيل قوة أمنية خاصة بها. ولا يوجد ما يدل على ذلك.
ولما كان هناك احتجاج واضح على عدم مقدرة الرئيس بايدن الاستمرار بالحكم لقضايا تتعلق بشخصه وصحته ومقدرته على التركيز، جرى تبديل نائبته كمالا هاريس به. ولولا أن الظرف الدولي هو الذي فرض التغيير في القيادة لما كان لكمالا أي فرصة للنجاح لا على مستوى الحزب ولا على مستوى الدولة. وشأنها شأن أوباما الذي تم إيصاله للحكم بسبب الوضع المتأزم الذي ساد أمريكا بعد 8 سنين من حكم بوش وما تبعه من أحداث بعد أزمة 11/9/2001 ومن ثم الانهيار المالي في أمريكا، فكان لا بد من تغيير أساسي في قيادة أمريكا فتم ترشيح رجل من أصول أفريقية، وقد فاز.
والظاهر أن أمريكا تريد تغيير القاعدة المعروفة أن أمريكا لا يحكمها إلا "الواسب" (البيض الأنجلو سكسون البروتستانت)؛ فقد كسروا قاعدة البروتستانت بعد أن تم ترشيح وانتخاب جون كيندي، ومن ثم بايدن من الطائفة الكاثوليكية، ثم تم ترشيح وانتخاب أوباما من العرق الأسود، وبقي ترشيح وانتخاب امرأة! فمن الممكن أن يكون ترشيح كمالا في ظرف سياسي يسمح بمجيء امرأة للرئاسة وكسر آخر قاعدة من القواعد التقليدية في طبيعة الحكم في أمريكا.
وتبقى الأيام القادمة حبلى بما هو أخفى، وما يعنينا اليوم كمسلمين هو متى يتم بناء دولتنا ليرى العالم كيف تدير الأمة الإسلامية شؤونها وكيف يكون الخليفة حاكما حقيقيا وليس أداة بيد دولة عميقة أو سطحية. «الْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».
رأيك في الموضوع