في الرابع والعشرين من شهر شباط 2023 بدأت روسيا هجوما مكثفا على أوكرانيا تحت ذريعة منع أوكرانيا من دخول حلف الناتو، وكانت الولايات المتحدة قد حذرت حلفاءها في أوروبا بأن روسيا قد تعمل على إشعال حرب في أوكرانيا. ومن قبل وفي شهر حزيران من العام نفسه كان بايدن قد التقى بوتين في جنيف حيث أكد الطرفان على أهمية الاستقرار الاستراتيجي والتعاون للحفاظ على الاستقرار. إلا أنه وخلافا لما تم التوافق عليه بين الطرفين شنت روسيا حربا شاملة في أوكرانيا تمكنت من خلالها من السيطرة على مقاطعة دونباس، ولا تزال الحرب مستعرة حتى الآن. ويزداد الحديث عن مخاوف من توسع الحرب لتشمل دولا أخرى في أوروبا.
والملاحظ في هذه الحرب من الناحية السياسية الحديث المتواصل عن تهديد روسي للغرب. والحقيقة أن مفهوم الغرب هنا يقتصر على أوروبا ولا يشمل أمريكا. فروسيا بصفتها الوريث الطبيعي للاتحاد السوفياتي من الناحية الاستراتيجية والعسكرية، تلتزم بالاتفاقيات الموقعة مع أمريكا بخصوص الاستقرار الاستراتيجي خاصة المتعلق بالسلاح النووي.
وحين يحتدم النقاش في الأوساط السياسية الأمريكية حول الحرب في أوكرانيا، لا يتوانى سياسيوها عن التصريح علنا بأن تأثيرها يشمل أوروبا ولا يتعداها لأمريكا. ولعل ما ذكره بايدن في رده على الجمهوريين في الكونغرس بقوله حسب ما نشرته صحيفة نيويورك تايمز في 21/10/2022 "هؤلاء لا يدركون أبعاد الحرب الأوكرانية. فهي أبعد من أوكرانيا. إنها خطر على أوروبا "الشرقية" وعلى الناتو. هؤلاء (الجمهوريون) لا يفهمون سياسة أمريكا الخارجية". فهنا بايدن ومع الشرر الأولى للحرب يبين أن الحرب في أوكرانيا في حقيقتها تتقصد أوروبا (الشرقية) وحلف الناتو.
والحقيقة أن الحديث عن الناتو كان قد سبقه تخوف أمريكي شديد من محاولة بعض الدول الأوروبية أن تتفلت من حلف الناتو وتتجه نحو إنشاء مؤسسة أمنية خاصة بأوروبا، وذلك بعد تصريح رئيس فرنسا ماكرون في شهر تشرين الثاني 2019 أن حلف الناتو أصبح ميتا دماغيا وأنه في غرفة الإنعاش المركز. وفرنسا من أكثر الدول الأوروبية تأييدا لفكرة إنشاء قوات أمن أوروبية بعيدا عن هيمنة أمريكا على الأمن العالمي تحت مظلة الناتو. إلا أن الحرب على أوكرانيا قد عملت على عدم تمكين أوروبا من الانفلات من الناتو والعمل بشكل مستقل. فقد صرح الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولينبرغ في الاجتماع الذي ضم رئيس اللجنة العسكرية في الناتو ووزراء خارجية الدول الأعضاء في الرابع من نيسان 2024 قائلا "اليوم أصبح الناتو أكبر وأقوى وأكثر اتحادا من أي وقت مضى". وقد تكرر هذا الوصف للناتو من قبل كثير من الساسة الأمريكيين. فبعد أن كان يوصف الناتو بأنه في غرفة الإنعاش أو ميت دماغيا قبل 5 سنين، أصبح بعد حرب أوكرانيا أكثر قوة واتحادا وعددا!
وقد جاء توصيف أثر الحرب في أوكرانيا بأنها حرب على الأرض في أوكرانيا والهدف الأبعد من ذلك هو أوروبا، جاء على لسان توماس فريدمان المحرر في صحيفة نيويورك تايمز وعضو مجلس الشؤون الخارجية الأمريكي. ولكن استهداف أوروبا عسكريا من قبل روسيا هو أبعد ما يكون عن التفكير الروسي. فروسيا تعلم يقينا أن إعلان أي حرب على أي دولة في حلف الناتو سيضطرها أن تواجه حلفا لا قبل لها به، وقد سعت منذ أيام الحرب الباردة أن لا تسمح للوصول إلى خط أحمر في هذا الاتجاه.
ففي 31/5/2022، أي بعد 3 أشهر من الحرب التي شنتها روسيا كتب فريدمان في صحيفة نيويورك تايمز قائلا "لقد ظننت أن بوتين قام بغزو أوكرانيا. لقد كنت مخطئا. في الحقيقة أنه قد غزا أوروبا". وليس هذا بعيدا عما قاله بايدن فيما بعد. وفي مقال آخر لتوماس فريدمان وآخرين في أمريكا أن هاجس خط الغاز نوردستريم 2 كان يقلق أمريكا دائما والتي تخشى من زيادة نفوذ روسيا في أوروبا من جهة، ومن تقليل اعتماد أوروبا في مصادر الطاقة على أمريكا أو من يدور في فلكها من الدول. وقد أوردت محطة CNN في 8/2/2022 أي قبل اندلاع الحرب بأيام تقريرا تحت عنوان "هل يستطيع بايدن أن يقتل مشروع نوردستريم 2"، والذي انتهى العمل بإنشائه وكان من المتوقع أن يضخ أكثر من 55 مليار متر مكعب من الغاز سنويا، وزادت تكلفته عن 15 مليار دولار. وكانت أمريكا قد حاولت مرارا أن توقف العمل بهذا المشروع منذ أن تم التوقيع عليه سنة 2015، إلا أنها لم تفلح في ذلك ولم يتبق من المشروع إلا افتتاحه بشكل عملي. ولكن المشروع تم إلغاؤه رسميا بعد اندلاع الحرب ومن ثم تفجير ثلاثة من خطوطه الأربعة في 26/9/2022 وقد اتهمت روسيا أمريكا بأنها وراء هذا التفجير.
والحاصل أن تهديد روسيا لأوروبا حقيقي وليس وهمياً. ولكن ليس المقصود من هذا التهديد إعلان حرب على أوروبا أو الدخول في صراع عسكري معها خاصة وأن روسيا لم يعد لديها القدرات السياسية والفكرية والعسكرية كما كانت أيام الاتحاد السوفياتي. والمستفيد الأكبر من هذا التهديد هو الطرف الأمريكي الذي يحرص على إبقاء أوروبا تحت مظلته ولا يسمح لها بأن تعود للساحة الدولية بشكل مستقل تماما عن أمريكا. ومن قبل لم تتوان أمريكا أن تعقد اتفاقا مع ألد خصومها الاتحاد السوفياتي لمحافظة كل منهما على مناطق نفوذه الأساسية؛ وهي أوروبا الغربية بالنسبة لأمريكا، وأوروبا الشرقية بالنسبة للاتحاد السوفياتي.
وقد شهدنا كيف تحركت أوروبا بشكل سريع ومباشر لتوقيع اتفاقية ماسترخت (الاتحاد الأوروبي) في 7/2/1992 بعد أقل من شهرين من الإعلان عن انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي في 26/12/1991. ومن ثم تم الاتفاق على إصدار العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) في بداية عام 1999.
والحاصل أن الاتحاد الأوروبي وعلى رأسه فرنسا وألمانيا لم تفتأ تبحث عن الظروف المناسبة للعودة إلى وضع دولي يناسبها، من خلال اتحاد قوي لدول أوروبا. وكانت قد وجدت فرصة سانحة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة بين العملاقين. وقد جاءت حرب أوكرانيا لتعيد أوروبا إلى حضن صديقها اللدود أمريكا وتبقى منضوية تحت لوائها أمنيا ومعتمدة عليها وعلى من يدور في فلكها في تزويدها بالطاقة الضرورية لتشغيل مصانعها، وحمايتها من البرد القارس.
وفي الختام لا بد من إدراك أن ما يجري من أحداث وصراعات ظاهرة أو باطنة لا تحكمها إلا المصلحة الآنية أو قريبة المدى، بعيدا عن أي شكل من أشكال المبدئية الفكرية. وهذا ما يجعل أفق التغيير في الوضع الدولي محدودا. ولما كان هذا الوضع الدولي ظالما بكل أشكاله، وعلى استعداد أن يهدر حياة الملايين من البشر، ويدمر كل شيء أمامه دون أي حساب، كان لزاما أن يدخل ساحة الصراع هذا مبدأ فكري راقٍ، متمثلٍ بدولة عملاقة لتحمي العالم والبشرية من شرور أمريكا وعدوتها الحميمة روسيا ومنافستها أوروبا.
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾
رأيك في الموضوع