استقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في باريس بتاريخ 8 حزيران/يونيو 2024 الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي قام بزيارة رسمية إلى فرنسا بدأت فعالياتها بحضور مراسم "فخمة" عند قوس النصر الشهير، ووجه الرئيسان بايدن وماكرون مع زوجتيهما التحية إلى المحاربين القدامى من البلدين، كما حضرا عرضاً عسكرياً في شارع الشانزلزيه في طريقهما إلى قصر الإليزيه.
وشهدت الزيارة مناقشات لتقديم مزيد من الدعم لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، وكذلك الاستعداد لقمة مجموعة السبع المقرر عقدها في مدينة باري الإيطالية، فضلا عن قمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" التي ستعقد في واشنطن في تموز/يوليو المقبل، وفقاً للتصريحات الرسمية الفرنسية. كما شملت المناقشات أيضاً الخطوات التي يمكن أن تتخذها الولايات المتحدة وأوروبا لجعل اقتصاديهما أكثر مرونة أمام الواردات الصينية، وفقاً لوكالة بلومبرغ للأنباء. فما هي أبعاد هذه الزيارة؟ وما هي الدلالات السياسية التي تحملها في طيّاتها؟
بداية، واضح أن الزيارة قد خضعت لترتيب فرنسي مُحكم، حيث جاءت بعد استضافة رئيس الصين في قصر الإليزيه، و"مساءلته" بحضور رئيسة المفوضية الأوروبية فون دير لاين حول ضرورة وجود "قواعد عادلة" للمبادلات التجارية، ثم وضع مسألة سبل التعاون لمواجهة الممارسات الاقتصادية للصين على جدول أعمال زيارة بايدن، قبل أن يتم تشريكه في مراسم إحياء الذكرى الثمانين لعملية إنزال نورماندي على شواطئ فرنسا، والتي أسهمت في إنهاء الحرب العالمية الثانية لصالح الحلفاء وهزيمة دول المحور بقيادة ألمانيا النازية، بما يحمله هذا الاحتفال من رسائل سياسية للقوى الطامعة في الصعود الدولي والاقتصادي على حساب الكتلة الغربية، وفي مقدمتها الصين التي أصبحت بمثابة المعضلة الدولية الرئيسية أمام أمريكا، تليها روسيا الصامدة في وجه العقوبات الغربية، حيث سجلت القيادة العليا لحلف الناتو حضورها في هذا الاحتفال، فضلا عن مشاركة بريطانيا وكندا، وهي أجواء جعلت زيارة الرئيس الأمريكي تدوم لمدة خمسة أيام متتالية من 5-9 حزيران/يونيو 2024، مع ما ميّزها من حفاوة الاستقبال، لتكون فرنسا أطول محطة تاريخية للرئيس الأمريكي خارج بلده.
وفضلا عن تزامنها مع حملته للانتخابات الرئاسية، تكتسي زيارة بايدن إلى فرنسا أهميتها من الرسائل الضمنية المشفرة تجاه المعسكر الشرقي (روسيا والصين) وذلك من خلال إبراز نوع من التقارب والتوافق والانسجام بين الدولة الأولى في العالم (أمريكا) وبين الدولة التي تحمل لواء قيادة الاتحاد الأوروبي منذ البركسيت (فرنسا)، وبالتالي محاولة إبراز رغبة أمريكية فرنسية مشتركة في تجسيد التماسك الغربي ضد التهديدات القادمة من الشرق، وفي مقدمتها تنامي الدور الصيني في مناطق النفوذ الغربية ومحاولة الولوج من باب الاقتصاد من خلال تطوير مبادرة الحزام والطريق وتقوية سلاسل الإمداد عالميا، يليه التهديد الروسي للأمن الأوروبي الذي يبدو أن أمريكا لا تزال تستثمر في بقائه واستمراره، فضلا عن التهديد الوجودي الذي يحارب الغرب قدومه بخروج المارد الإسلامي من القمقم.
في هذا السياق من "التقارب" بين البلدين، أكد المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض جون كيربي أن الطرفين يريدان إظهار أنهما "أقرب مما كنا عليه في أي وقت مضى". (فرانس 24، 08/06/2024). وهكذا فإن الحرص الفرنسي على التقرب من أمريكا والتظاهر الأمريكي بدفء العلاقة بين البلدين في هذا التوقيت السياسي، يعكس وجود مخاوف أمريكية أوروبية مشتركة من عودة ترامب إلى سدة الحكم، ما قد يعزز حالة الانقسام والتشرذم داخل المجتمعات الغربية خاصة مع تصاعد موجة اليمين المتطرف.
هذا يعني أن هناك فعلا حاجة ظرفية إلى إظهار نوع من التقارب، وأن الأمر يتجاوز الشكليات، ليظهر بايدن بمظهر المدافع عن مصالح أوروبا وعن أمنها (حيث وصف إنزال نورماندي بـ"أول خطوة لتحرير أوروبا". روسيا اليوم، 11/06/2024)، مع ربط ذلك بالمظلة الأمريكية وحلف الناتو الذي يطلب المزيد من الدعم والتسليح، حيث لم تمنع أجواء الاحتفال القائد الأعلى لحلف شمال الأطلسي كريستوفر كافولي، من تكرار هذا الطلب، بل صرح قائلا: "فيما يخص المعدات العسكرية... نحن بحاجة إلى بناء المزيد، نحتاج إلى توسيع قاعدتنا الصناعية". (الشرق الأوسط، 06/06/2024).
في حين يظهر ماكرون المتقرب من أمريكا وحلفها بمظهر المحافظ على وحدة وتماسك الاتحاد الأوروبي في معركته الوجودية، فيتزعم قيادة أوروبا بدلا عن ألمانيا التي يخشى صعودها وتنامي دورها داخل الاتحاد الأوروبي، خاصة وقد استطاعت أن ترفع مستوى إنفاقها الدفاعي لسنة 2024 ليتجاوز عتبة الـ2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي - المطلوبة في الناتو - لأول مرة منذ عام 1992. وهذا يحيلنا إلى تصريح ماكرون في حفل تكريم للذكرى 75 للدستور الألماني في برلين، قبيل انتخابات البرلمان الأوروبي، حيث قال: "إننا نعيش لحظة وجودية قد تموت فيها أوروبا" (روسيا اليوم، 26/05/2024).
ومما يؤكد حرص فرنسا على مزيد التقرب من أمريكا وحلفها الأطلسي، بعد أن أدركت بشكل متأخر أن انضمام دول أوروبية على غرار السويد وفنلندا يمر عبر الدول الفاعلة في الناتو مثل تركيا، إقدامها ولأول مرّة على وضع حاملة الطائرات النووية شارل ديغول والقطع المرافقة لها، بما في ذلك غواصة هجومية نووية، تحت قيادة حلف شمال الأطلسي لمدة 15 يوماً، للمشاركة في التدريبات البحرية للحلف في البحر الأبيض المتوسط، وهو ما اعتبرته المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا دليلا واضحا على التآكل المستمر للسيادة الوطنية لفرنسا في بعدها الأكثر أهمية وحساسية، أي مجال الردع النووي. (روسيا اليوم، 18/04/2024).
وهكذا، تمني الدولة الوحيدة داخل الاتحاد الأوروبي التي لديها ردع نووي نفسها، بلعب أدوار أساسية ضمن الأجندة الدولية، عبر مغازلة الدولة الأولى في العالم، ومحاولة ضمان وجودها على الساحة الدولية من خلال بحث مواضيع حارقة في السياسة الدولية على غرار مآلات الحرب في أوكرانيا، والتجارة مع الصين والحرب على غزة...
فنجد فرنسا رغم تراكم أزماتها الداخلية تدفع كامل أوروبا إلى مزيد الإنفاق العسكري وإلى معاضدة جهود الناتو، بل كانت سباقة في الإعلان عن استعدادها لإرسال جنودها للقتال في أوكرانيا، حتى إن أبرز قوى المعارضة من اليمين المتطرف، اضطر إلى تعديل موقفه مؤخراً، مؤكداً أنه لا مجال للانسحاب من الحلف الأطلسي ما دامت الحرب في أوكرانيا مستمرة.
وبعبارة أخرى، فإن فكرة الجيش الأوروبي المستقل عن الناتو قد ولت إلى غير رجعة، بل إن مواجهة المظلة الأمريكية لم تعد على ما يبدو ممكنة إلا بخدمة أهداف السياسة الأمريكية، وبالتالي نجد أوروبا في تبعية للسياسات التي ترسمها أمريكا للعالم، وخاصة في القضايا الكبرى.
وقد جاءت مخرجات لقاء الرئيس الفرنسي بنظيره الأمريكي لتؤكد هذه الحقيقة:
- أكد بايدن أنه تم الاتفاق مع ماكرون على دعم أوكرانيا بأصول روسيا المجمدة، من خلال مجموعة السبع، وهو ما تم لاحقا، علما أن معظم أموال البنك المركزي الروسي مجمدة داخل الاتحاد الأوروبي، وبالتالي أوروبا هي من سيتحمل تبعات هذا القرار.
- أكد بايدن أنه لن يرسل جنودا أمريكيين للقتال في أوكرانيا، ولكن سيظل مدافعا عنها للتأكيد على حاجة أوروبا للمظلة الأمريكية. حيث أضاف: "الأمر لا يتعلق بأوكرانيا فحسب، فأوروبا بأكملها ستكون في خطر، لن نسمح بذلك". (روسيا اليوم، 08/06/2024).
- رغم تصريح الرئيس الصيني شي جين بينغ من قصر الإليزيه بفرنسا بأنه لا يوجد شيء يسمى "مشكلة القدرة الإنتاجية المفرطة الصينية" (شينخوا، 6 أيار/مايو 2024)، إلا أن الرئيس ماكرون أصر على نفي ذلك تزامنا مع زيارة بايدن، ليمارس عليه نوعا من الضغط المعنوي، مصرحا بأن "ممارسات الصين تؤدي إلى خلق حالة من فرط الإنتاجية" (رويترز، 08/06/2024)، ومع ذلك تجاهل بايدن، الذي أغضب قادة أوروبا بتوقيع قانون خفض التضخم، هذا الموضوع خلال الندوة الصحفية، مكتفيا بما ذكره سابقا من كون هذا الإجراء هو أكبر استثمار أمريكي على الإطلاق في مكافحة تغير المناخ، رغم ضرره الحتمي على الشركات الأوروبية.
- إن حرص فرنسا على وقف إطلاق النار في غزة، لم يكن نابعا من إحساسها بعظم الجرائم في حق أهلها، إنما هو وقف لمسار استنزاف القارة العجوز وتآكلها حضاريا واقتصاديا، لأن إطالة أمد الحرب في غزة لا تعني بالنسبة لقادة أوروبا إلا مزيدا من استهداف السفن الأوروبية وكابلات الإنترنت في البحر الأحمر، كما أن استمرار دعم كيان يهود يضعف من نصيب الدعم الأمريكي لأوكرانيا، وهذا يتطلب مزيدا من الإنفاق الأوروبي على رغبات زيلنسكي الحربية، في وقت تعتبر فيه أوروبا أكثر متضرر من الحرب.
ختاما، ليس مستغربا في هذا العالم الرأسمالي الذي تحكمه المصالح والمنافع المادية التي لا تقيم وزنا لإنسانية الإنسان، أن يتناسى ماكرون ذلك الخازوق الأمريكي في صفقة الغواصات ضمن تحالف أوكوس، ولا تلك الصفعات المتتالية في بلدان الساحل الأفريقي، ولا وضع الأمن الغذائي والطاقي لأوروبا على المحك، واستثمار أمريكا في إطالة عمر الأزمة، لنجده يتودد لبايدن الذي حصلت في عهده أسوأ الأزمات الأوروبية، عسى أن يجنب نفسه وبقية قادة أوروبا خوازيق السياسة الترامبية، ليصدق فيهم جميعا قول المولى سبحانه: ﴿بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ﴾.
رأيك في الموضوع