أطيح بحكومة فرنسا، بقيادة رئيس الوزراء ميشيل بارنييه، في تصويت تاريخي بحجب الثقة يوم الأربعاء 04/12/2024، ما يمثل أول انهيار من نوعه منذ عام 1962، ويتمخض عن آثار أبعد من الحدود الفرنسية، مع تداعيات اقتصادية وجيوسياسية محتملة، وخاصة لحلفاء فرنسا، بما في ذلك الولايات المتحدة، فما الذي حدث بالضبط؟ وما تداعياته؟ (الجزيرة، 05/12/2024)
لقد أجبر رئيس الوزراء الفرنسي ميشيل بارنييه على الاستقالة بعد 3 أشهر فقط من توليه منصبه، بعد أن توحد المشرعون من اليسار واليمين لدعم اقتراح بحجب الثقة عن الحكومة سيؤدي إلى إغراق فرنسا في حالة من عدم الاستقرار السياسي بشكل أعمق. وصوّت 331 من أصل 577 مشرعا ضد حكومة بارنييه الهشة، واستغلوا فرصتهم للإطاحة بالسياسي المخضرم والمفاوض الشهير بعد محاولته تمرير جزء من الميزانية السنوية لحكومته متجاوزا بذلك التصويت البرلماني من خلال استدعاء المادة 49.3 من الدستور الفرنسي، ليصبح بارنييه صاحب أقصر مدة بمنصب رئيس وزراء في تاريخ فرنسا.
ولكن بعد تسعة أيام من حجب الثقة عن حكومة بارنييه، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تعيين زعيم حزب الحركة الديمقراطية فرانسوا بايرو رئيسا جديدا للوزراء، بعد أن كان يتباهى بالوزير الشاب غابرييل أتال كونه أصغر رئيس حكومة عرفه تاريخ فرنسا. وبذلك يصبح بايرو سادس رئيس للوزراء منذ انتخاب إيمانويل ماكرون لأول مرة عام 2017، وهو الرابع في عام 2024، ما يعكس حالة عدم استقرار في السلطة التنفيذية لم تشهدها فرنسا منذ عقود.
ويعد بايرو (73 عاما) شخصية معروفة في الأوساط السياسية الفرنسية. وهو رئيس حزب الحركة الديمقراطية الوسطية التي أسسها سنة 2007. وتقلد بايرو عددا من المناصب الوزارية، بينها إشرافه على حقيبة التربية بين عامي 1993 و1997 في عهد جاك شيراك، وترشح ثلاث مرات للانتخابات الرئاسية أعوام 2002 و2007 و2012 دون أن يتجاوز الدور الأول في أي منها، ثم مهد تحالفه مع ماكرون عام 2017 الطريق لانتخاب أصغر رئيس في تاريخ فرنسا. ومع أنه قد عين حينذاك وزيرا للعدل، إلا أنه لم يبق في منصبه سوى 34 يوما في عام 2017 بسبب شبهة اختلاس أموال أوروبية، على خلفية دفع رواتب مساعدين برلمانيين من حزبه. هذه هي باختصار السيرة الذاتية لرئيس الحكومة الجديد، وهذه هي مقدمات وضعه في فوهة بركان الوضع السياسي المتفجر في فرنسا.
إن محاولات ماكرون تدارك الأزمة العاصفة التي تحيط ببلده والاستماتة في سياسة الهروب إلى الأمام مع مسايرة أمريكا في السياسة الخارجية، لن تمكنه من رأب الصدع الحاصل في بلد صار نموذجا لتآكل الحضارة الرأسمالية الغربية وانفجارها من الداخل.
لقد تراكمت مشاكل فرنسا وتضاعفت بشكل لم يعد يُمكّنها من تعليق فشلها الحضاري وانهيارها السياسي وعجزها الاقتصادي وسقوطها الأخلاقي على شماعة الهجرة والمهاجرين، فقد وجد ماكرون نفسه منذ أشهر أمام أزمة سياسية خانقة ووضع اقتصادي صعب، واستقرار مالي مهدد وترقيم سيادي متراجع، حيث ارتفع الدين العام لـ110.7% من إجمالي الناتج الداخلي، وتباطأ انخفاض التضخم بسبب أسعار الغذاء، فيما خفضت وكالة التصنيف ستاندرد أند بورز، تصنيف فرنسا الائتماني للمرة الأولى منذ عام 2013، في شهر حزيران/يونيو 2024، لتقوم وكالة موديز للتصنيف الائتماني بخفض علامة الديون السيادية لفرنسا درجة واحدة إلى "إيه إيه 3" عقب اختيار السياسي المخضرم فرنسوا بايرو على رأس الحكومة المرتقب تشكيلها. وحسب موديز "بالنظر إلى المستقبل، هناك الآن احتمال ضئيل للغاية بأن تتمكن الحكومة المقبلة من تقليص حجم العجز المالي بشكل مستدام إلى ما بعد العام المقبل". (فرانس 24، 14/12/2024)
وعلى وقع تشكيل الحكومات وإسقاطها وحديث بعضهم عن حرب أهلية تلوح في الأفق، تتضاعف احتجاجات المزارعين الغاضبين من اتفاقيات "ميركوسور" والتي تخول فرنسا والاتحاد الأوروبي عموما استيراد المنتجات الفلاحية القادمة من أمريكا اللاتينية والتي لا تخضع للمعايير الأوروبية، بما يذكرنا باحتجاجات السترات الصفراء ومظاهرات قانون التقاعد وانتفاضة الأحياء الشعبية التي أعقبت مقتل الشاب الجزائري نائل، وما رافق ذلك كله من عنف سياسي أدى بدوره إلى احتجاجات كبيرة ضد عنف الشرطة.
وهكذا بدا واضحا أن ماكرون قد غامر بمناورة حل البرلمان وإعادة تشكيل الحكومة منذ أشهر، ولا يبدو أيضا أن تعيين رئيس الحكومة الجديد بايرو سينجي فرنسا من خطر الانفجار المجتمعي والاضطراب السياسي، لا لأن البرلمان قد يُشهر في وجهه سلاح سحب الثقة هو الآخر، وإنما لكون النظام في فرنسا مُصرّ على رفع سن التقاعد إلى 64 عاماً، وهذا وحده كاف لخلق أزمة جديدة وانقسام مجتمعي جديد نابع من ظلم التشريعات الجائرة، يضاف إلى الشرخ الحاصل في فرنسا حول طريقة إدارة ماكرون لدفة الحكم في بلاده التي يدفع بها نحو مزيد الدعم العسكري لأوكرانيا رغم الامتعاض الشعبي تجاه إقحام فرنسا في حرب تقرع على أبواب أوروبا.
ورغم كل الأزمات التي تحيط بفرنسا من كل جانب وتهدد مجتمعها بالانقسام، إلا أن رئيسها (صانع الأزمات) لا يزال مصرا على أن هذا السقوط القيمي والإنساني المدوي لبلده الداعم للإبادة الجماعية في غزة وترديه إلى قاع سحيق من الانحطاط الأخلاقي والإفلاس الحضاري، هو الخيار الأمثل للدفاع عن قيم الجمهورية ولمواجهة العنصرية اليمينية واليسارية، مصراً على خيار الرأسمالية الليبرالية غير عابئ بالحكومة والبرلمان ولا بالأغلبية الساحقة من الشعب، وكل ذلك باسم الديمقراطية!
ختاما، فإن تخبط دول الغرب ومنها فرنسا في دياجير الظلام الرأسمالي ووصولها إلى هذا الحد من الاستعلاء والتكبر وإنكار طبيعة الأزمة الحضارية، لهو دليل على أن الإسلام الذي ترعاه دولة تحمل دعوته إلى العالم، هو أحوج ما تكون إليه البشرية اليوم، وهي تذوق الويلات والحسرات وتتجرع الآهات والنكبات في كل بقعة من بقاع الأرض على أمل أن تشرق شمس الخلافة الراشدة من جديد.
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾.
رأيك في الموضوع