بعد الأحداث الدامية ودوّامة الموت التي أفزعت البشرية إبان الحرب العالمية الأولى وقبيل هدم الخلافة، أصدر الكاتب والروائي التشيكي كارال تشابك روايته المسرحية "إنسان روسوم الآلي" حول موجة الاقتصاد الحر وحرية السوق المطلقة العنان، فانتقد الرأسمالية وحذر من تداعياتها على مستقبل البشرية عبر أحداث روايته التي بث عبرها العديد من التحذيرات لمستقبل الإنسان على وجه الأرض، عندما تخيل أن التقدم العلمي والتقني المستقبلي المطلق العنان، سيؤدي إلى صناعة إنسان آلي ذي قدرة ذهنية وعملية تتخطى إمكانيات الإنسان نفسه وقدرته على التحكم في مآلات الأمور، إلى درجة أن مصير البشرية يصبح تحت رحمة الصناعة المستقبلية والتي مثلها في روايته بالإنسان الآلي، أو "الروبوت" الذي سيسعى حسب تصوره إلى تدمير البشرية بأكملها.
كان كارال تشابك هو أول مَن أطلق لفظ "روبوت" على الإنسان الآلي المفترض، والذي يظن كثيرون إلى اليوم بأنه مصطلح علمي خالص، مع أن لفظة "روبوت" مشتقة في الحقيقة من الكلمة التشيكية "روباتا" وتعني العمل.
لم يكن هذا الأديب يعلم أن رواية الخيال العلمي التي أنتجها واستشرف من خلالها المستقبل من أجل انتقاد الرأسمالية وحروبها المدمرة دقيقة إلى هذا الحد، حيث تطورت الصناعات التكنولوجية إلى درجة أن الروبوتات والطائرات دون طيار والأسلحة الفتاكة صارت جزءاً لا يتجزأ من عمليات القتل والإبادة الجماعية التي تجاوزت في فظاعتها ما قرأناه عن الفاشية والنازية، ينفذها مرتزقة ينتشون بإراقة الدماء وتطاير الأشلاء وكأنهم في لعبة حربية. أما الرأسمالية، فلا يهمها من أمر الإنسان شيء سوى أنها تحاول أن تثبت لنفسها براءة اختراع صناعة الروبوت.
لم يشهد هذا الروائي التشيكي أحداث الحرب العالمية الثانية، ولا جرائم القصف الذرّي على هيروشيما وناجازاكي ولا عشرات الحروب والنزاعات والصراعات الطاحنة المفتعلة على مر القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، لم تكن آخرها حربا العراق وأفغانستان، وذلك من أجل ضمان الهيمنة الأمريكية والغربية وبقاء الحضارة الرأسمالية جاثمة على صدور البشرية وبالتالي استمرار نهب ثروات الشعوب وخيراتها تحت غطاء العدالة والمساواة وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وإلا فماذا عساه يقول عن نظام رأسمالي يزداد فتكا وبطشا كل يوم ليصبح عدوا للإنسان في وجوده وكينونته وكل معاني إنسانيته، يستنزف أمنه وأمانه وصحته وبقاءه؟ وما أحداث الحرب الروسية الأوكرانية ومن قبلها أزمة كورونا عنا ببعيد.
يقول الكاتب الأمريكي جون بيلامي فوستر في كتابه "الأزمة المالية العالمية وأزمة الرأسمالية": "ها نحن بعد أقلّ من عقدين على بداية القرن الحادي والعشرين، ويبدو لنا واضحاً أنّ الرأسمالية قد فشلت كنظام اجتماعي. فالعالم غارق في الركود الاقتصادي وفي أعظم معدلات عدم المساواة في تاريخ البشرية، وكلّ ذلك مصحوباً بالبطالة الهائلة وبالبطالة المقنعة وبالأعمال غير المستقرة، وبالفقر والجوع والمدخلات الضائعة والحياة المهدورة، وقد وصلنا إلى ما يسمونه في هذه المرحلة "دوّامة الموت" في البيئة الكوكبية".
لقد كان الغرب الرأسمالي ولا يزال شريكا في كل الجرائم التي حدثت ضد البشرية بشكل عام، وضد المسلمين بشكل خاص، لإدراكه العميق بأن الإسلام هو الوريث الطبيعي للحضارة الغربية حال سقوطها، فكان هذا الغرب الحامل للواء حقوق الإنسان شريكا في إراقة دماء المسلمين في البوسنة والشيشان والعراق وأفغانستان وليبيا والسودان واليمن وسوريا ولبنان...
أما الأرض المباركة فلسطين، فنالها النصيب الأكبر من الإجرام طوال عقود خلت، حيث سلط الغرب عليها أرذل خلق الله، المغضوب عليهم قتلة الأنبياء، وزودوهم بأعتى الأسلحة وأشدها فتكا، وأحاطهم بأنظمة وظيفية عميلة، ليباشروا جرائم التطهير العرقي التي استمرت لأكثر من خمسة وسبعين عاما، والتي بلغت مداها في حرب غزة الأخيرة.
ولذلك، كانت غزة هي الصخرة التي تحطمت عليها كل الشعارات الغربية الزائفة، وكانت عملية طوفان الأقصى المنعرج التاريخي الذي ضرب الحضارة الرأسمالية في مقتل، ما شكل صدمة حضارية لشعوب الغرب نفسها ترجمته تحركات شعبية جابت شوارع كبرى عواصمهم، وخلّف امتعاضا لديها لن تمحوه مساحيق التجميل المعتادة.
اليوم، يواصل هذا الغرب الرأسمالي نفاقه السياسي وحربه الصليبية المعلنة، قافزاً فوق كل الحقائق الساطعة، بدءاً بانهياره أخلاقيا وقيميا ودعمه لكل أنواع الشذوذ، مروراً بأزماته السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة، ووصولا إلى انكشاف وجهه القبيح أمام كل عقلاء وأحرار هذا العالم، ليدرك القاصي والداني بأن الإرهاب صناعة غربية بامتياز، وأن افتعال الحروب الاستعمارية ليس مجرد طريقة لنشر المبدأ الرأسمالي فحسب، بل هو جزء من جيناته وتركيبته منذ نشأته على أساس فكرة "البقاء للأقوى".
إلا أن منطق الغرور وجنون العظمة الذي يحكم ويسير عقول أباطرة المال والأعمال وتجار الأسلحة في هذا العالم الرأسمالي المتوحش بزعامة أمريكا، يأبى أن يتقبل كل هذه الحقائق ما دامت الغلبة العسكرية والهيمنة الاقتصادية لا تزال في أيدي مصاصي الدماء من الوحوش الآدمية التي احتكرت الثروة وجعلت البشرية تئن تحت وطأة أنظمة وضعية ودساتير قدت على مقاس رأس المال، في أقذر وأبشع صورة للعبودية المعاصرة والتي تقوم على أساس الخداع والاحتيال المقنن بوسائل وتقنيات حديثة تخاطب الغريزة وتتغنى بالإنسان الآلي والذكاء الصناعي.
ولذلك كان تحالف ترامب وماسك، انعكاسا طبيعيا لحالة الغرور والنرجسية التي يعيشها زعماء الرأسمالية العالمية، لتتسلح الدولة الأولى في العالم بأحدث وسائل التكنولوجيا، بغرض محاولة السيطرة على سائر البشر، دولا وجماعات وأفرادا، من خلال التحكم في أنماط عيشهم وطريقة تفكيرهم ونظام حياتهم، ثم من خلال سلب ثرواتهم ومقدراتهم وحتى معلوماتهم الشخصية، لصالح الأقوياء في هذا العالم، بل لتصبح أقواتهم وأرزاقهم بأيدي "الجهات المانحة" التي تنشر الدمار وتشارك لاحقا في إعادة الإعمار، ثم ليصل تحالف القوى الكبرى مع الشركات الكبرى إلى حالة من الاستقواء والتأله التي لا تخشى ردود أفعال "الضعفاء" حسب نظرهم، ما جعل ترامب لا يمانع من التهديد بجحيم في الشرق الأوسط ما لم تتم استعادة الرهائن المحتجزين في غزة.
كل هذه الهالة التي يحيط بها ترامب نفسه، وهذه الديكتاتورية المقنعة بقناع الحرية وزيف تغريداتها، والتي جعلت نواقيس الإنذار تدق في عواصم أوروبا بزعم الخوف على مستقبل الديمقراطية، هي حالة طبيعية لنظام عالمي مترنح، ينتظر قيام دولة قوية تقوم على أساس مبدأ عظيم، حتى تسقطه وتريح الناس من شره، هي دولة الإسلام المنوطة بأمة الإسلام.
بهذا فقط ننقذ البشرية من جحيم الرأسمالية، ونعيد أمجاد قرون خلت في ظل الخلافة التي احتضنت أمثال العالم والمهندس بديع الزمان الجزري في بلاد الشام، عندما كانت أوروبا تعيش في دياجير الظلام، فكان أول من اخترع إنسانا آليا مبرمجا للقيام بمهمة محددة، عندما طلب منه أمير أرتق أن يصنع له آلة تغنيه عن الخدم كلما رغب في الوضوء، فصنع له آلة على هيئة غلام في إحدى يديه إبريق ماء وفي الأخرى منشفة وعلى عمامته يقف طائر، فإذا حان وقت الصلاة يصفر الطائر ثم يتقدم الخادم الآلي نحو الأمير ويصب عليه الماء من الإبريق، فإذا انتهى من وضوئه قدم له المنشفة، ثم يعود إلى مكانه بينما العصفور يغرد!
رأيك في الموضوع