بدأت المفاوضات بين إيران وأمريكا في عُمان، للتوصل إلى اتفاق حول الملف النووي الإيراني، ورفع العقوبات عنها، فقد قالت إيران إنّ أمريكا تريد اتفاقا نوويا بأقرب وقت ممكن، بعد مباحثات نادرة السبت في عُمان، فيما يهدد الرئيس الأمريكي بعمل عسكري في حال باءت بالفشل جهود التوصل إلى صفقة جديدة، وذكرت وزارة الخارجية الإيرانية أن المفاوضين تحدثوا أيضا بشكل مباشر بضع دقائق. وأضافت أن المحادثات عُقدت في أجواء بنّاءة يسودها الاحترام المتبادل.
وللحديث عن العلاقة الإيرانية الأمريكية لا بد من تأكيد حرص أمريكا على التوصل لاتفاق حول العلاقة مع إيران وملفها النووي، وحرصها هذا نابع من مصلحتها كدولة تدرك مدى أهمية الدور الذي قامت وتقوم به إيران خدمة لمصالح أمريكا، ولكن المفاوضات طالت وتعطلت واختلفت وتباينت لظروف سياسية وأطراف لها علاقة بالصراع ما أدى إلى إطالة أمد الاتفاق.
لقد بدأ الحديث فترة الرئيس الأسبق باراك أوباما عن جولة من المفاوضات حول الاتفاق مع إيران حول ملفها النووي ومحاولة أوباما حينها عقد اتفاق لتسهيل الوضع الاقتصادي لإيران وتمكنها من تنفيذ المخططات الأمريكية في المنطقة خاصة في سوريا التي كادت أن تخرج من نفوذ أمريكا لضعف نظام بشار فعقدت أمريكا الاتفاق معها لتنشيط دورها في سوريا في 14/07/2015 بعد الجو العام الذي انتشر في سوريا باسم الخلافة، ومعلوم عداء إيران لفكرة الخلافة ومشروعها.
هذا الأمر، وهو المناداة بالخلافة في سوريا، زاد من حدة مأزق أمريكا والغرب لإدراكهم عظمة الخلافة وقوتها، وأن القوى الأخرى في ظل وجودها لن تكون ذات شأن، هذا إن لم تصبح أثراً بعد عين. ثم هناك عامل آخر يزيد حدة المأزق، وهو أن أمريكا غارقة في أزماتها ما يضعف فاعلية تأثيرها المباشر للقضاء على هذا الجو الإسلامي المتنامي في سوريا، ولذلك فهي تبحث عن أعوان في المنطقة يكونون خطها الأمامي في التصدي لهذا الجو الإسلامي. فأخرجت بهذا الاتفاق إيران من قمقمها لمحاربة ثورة الأمة نيابة عنها لدرجة أن صرح أوباما "إنّ ما قمنا به مع إيران، يعدّ تقدماً ملموساً، والأكثر أهمية منذ أن توليت منصبي...".
عارض الاتفاق بداية بعض الأطراف الدولية مثل الثلاثي الأوروبي؛ بريطانيا وفرنسا وألمانيا، ومعلوم موقف أوروبا من إيران بعد ثورة الخميني، لأن الثورة جاءت بقطار أمريكي ضد نفوذ بريطانيا.
وكذلك عارضه كيان يهود وصرح رئيس وزرائه نتنياهو بأن "الاتفاق خطأ تاريخي واتفاق سيئ يقدم لإيران ما كانت تريده: رفع جزء من العقوبات والإبقاء على جزء أساسي من برنامجها النووي".
ومعارضة يهود ليست لاختلافهم مع إيران عقائدياً، بل سياسيا فقط على الدور والمكانة في خدمة المصالح الأمريكية، وهناك عامل آخر ومهم وهو رغبة كيان يهود بأن لا تكون في المنطقة قوة ذات شأن غيره لعقدة الأمن عنده حتى لو كان حليفاً مقرباً فهو يريد تفكيك الطاقة النووية الإيرانية كاملةً.
وأيضا عارضه الحزب الجمهوري الأمريكي آنذاك، ليس لأن الاتفاق نصر لإيران ومصلحة لها وإعلاء لشأنها، لأن حقيقة الاتفاق كما هي في زمن أوباما أنه إذلال لإيران وتنازل مخز لها في مشروعها النووي، ولكن ترامب أعلن الانسحاب لأسباب مهمة منها:
- أسباب حزبية ومعارضة وحتى لا يحقق الحزب الديمقراطي نصرا ينسب له بل يريد ترامب نسبة النصر له هو. ويؤكد هذا المحادثات التي تجري اليوم.
- أسباب انتخابية، حيث القاعدة الشعبية الجمهورية من الإنجيليين تؤيد هذه السياسات لتوفير أقصى قدر ممكن من الأمن ليهود ويعتبرون ذلّك مسألة فكرية (دينية) أعلى من السياسية.
- أسباب سياسية وهي:
- الحاجة للدور الإيراني لم تعد قائمة الآن كما كانت سنة 2015م. فقد أصبح وضع بشار في كفة راجحة، فهذا أوجد لدى إدارة ترامب نظرة أخرى وخاصة ما حققته أمريكا في العراق وسوريا ضد أهل البلدين الساعين للتحرير، ولم تعد هناك حاجة لإعطاء إيران دورا رئيسا مباشرا فتبدلت الأوضاع.
- تضخيم العداء الأمريكي لإيران وبخاصة أمام السعودية وأمثالها ليحل هذا العداء مع إيران مكان حالة العداء مع كيان يهود.
- تأديب لأوروبا وبخاصة من الناحية التجارية حيث استغلت الاتفاق بالانفتاح التجاري على إيران وتخفيف علاقاتها التجارية في أمريكا. جاء في جواب سؤال أصدره حزب التحرير بتاريخ 13/5/2018م بعنوان (انسحاب ترامب من الاتفاق النووي): ما يلي: "إن أوروبا أدركت أن إلغاء الاتفاق سيلحق بها ضرراً تجارياً ذا شأن مقدمة للضرر السياسي ولذلك بذلت الوسع في اللقاء مع ترامب لثنيه عن الانسحاب، فقد ذهب ماكرون إلى أمريكا وحاول أن يثني الرئيس الأمريكي عن عزمه الانسحاب من ذلك الاتفاق، ولكنه فشل، وتبعته المستشارة الألمانية ميركل، وقد قدما تنازلات لأمريكا ولكنها لم تقبل. فظهر الموقف الأوروبي ضعيفا. ثم تحركت بريطانيا فاتصلت بماكرون وميركل وأعلنوا أنهم مصرون على الاتفاق النووي الإيراني ومن ثم زار وزير خارجية بريطانيا جونسون أمريكا وأعلن أن العالم أكثر أمنا بوجود الاتفاق من عدمه وبدأت بريطانيا تتحرك بقوة، فرأى ترامب تقديم موعد موقفه من الاتفاق من 12 أيار إلى 8 أيار ليقطع الطريق أمام تحركات أوروبا فأعلن ما أعلن، ولم يُقِم للأوروبيين وزناً لأن المؤسسات الأمريكية رأت في هذه الأسباب الثلاثة مصلحة دافعة لأمريكا لإلغاء الاتفاق".
وبعد البحث أعلاه ندرك لماذا عاد ترامب للمفاوضات مع إيران الآن، فهو يريد:
1- نسبة تحقيق النصر له وعلى يديه.
2- تحجيم إيران بعدما تغير الوضع السياسي في المنطقة، ولعبت قوى أخرى أدواراً لخدمة المصالح الأمريكية.
3- تخلي إيران عن مشروعها وأدواتها، فقد قام ترامب في رئاسته السابقة بقتل قاسم سليماني دون رد حقيقي منها بل رد هزيل متفق عليه. وهي الآن تتخلى عن أذرعها في العراق ولبنان وتضغط على مليشياتها في العراق حتى لا تضرب قوات أمريكا ولا قواعدها. وتركت غزة أمام آلة حرب مجرمة مكتفية بالخزي الاستراتيجي. ورأت أمريكا مدى حجم الذل والهوان الذي وصل بقادة إيران بعيداً عن الصراخ والظاهرة الصوتية، بينما هي تخدم أمريكا في كل ملفاتها ليس مقابل مصالح لها، بل مقابل عدم ضربها وإطلاق يد كيان يهود عليها، فهي على استعداد للتخلي عن برنامجها النووي - وقد فعلت وستفعل - وستعطي الشركات الأمريكية ما تريد من الاستثمارات خاصة بعدما أُخْرجت الشركات الأوروبية بعد العقوبات الأمريكية على كل من يستثمر في إيران في ولاية ترامب السابقة حيث أصبحت إيران في حل منها وأصبح الباب مفتوحاً للشركات الأمريكية.
أما موقف كيان يهود فكان واضحاً جدا أن نتنياهو الآن أمام واقع جديد في البيت الأبيض وشخص بعقلية تجارية وليس أمام شخص ضعيف، وقد تحدثت صحيفة تايمز أوف يسرائيل عن الاتفاق الأفضل ليهود، وقالت في تقرير للكاتب ديفيد هوروفيتز، إن الاتفاق يجب أن "يمنع" الأسلحة النووية الإيرانية بشكل دائم. وقال إن ما فعله ترامب مع نتنياهو، في زيارته الأخيرة للبيت الأبيض كان "مفاجئاً"، إذ لم يخبره مسبقاً بنيته فتح مفاوضات مع إيران "ووضعه أمام أمر واقع وطلب منه فوراً الجلوس والتعبير عن تأييده القرار".
وأخيراً: إن إيران مصلحة كبرى لأمريكا فقد جرّبتها في العراق وأفغانستان والشام، ويريد منها ترامب أن تخدمه قائمة وقاعدة ونائمة، وأن تدور مع مصالح أمريكا كيفما دارت، ويبدو أن إيران مستعدة لهذا لكنها بحاجة لعملية إخراج تحفظ لها شيئا من ماء وجهها إن بقي منه شيء.
رأيك في الموضوع