جرت المناظرة الرئاسية الأولى التي استضافتها شبكة إيه بي سي الإخبارية بين الرئيس السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترامب، وبين نائبة الرئيس والمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، في 10 أيلول/سبتمبر 2024، وسط ترقب كبير. كانت المناظرة فرصة حاسمة لكل مرشح لتعزيز موقفه في سباق انتخابي محتدم، قبل بدء التصويت المبكر في عدة ولايات رئيسية، وقبل شهرين من موعد تصويت الناخبين الأمريكيين في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. وقد شهدت المناظرة تركيزاً على قضايا محورية مثل: الإجهاض، والهجرة، والاقتصاد، وحرب غزة وأوكرانيا وتداعيات انسحاب أمريكا من أفغانستان. وقد أظهرت المناظرة بعض الأمور التي ينبغي الوقوف عندها:
أولا: إن أسلوب المناظرة بين المرشحين هو أسلوب جيد فهو فرصة لبيان عقلية كل مترشح وعرض برنامجه الانتخابي ومخاطبة الجمهور وبيان مهاراته وقدراته، إلا أنه فقد رونقه من خلال أداء المترشحين في الدول الغربية وخاصة أمريكا.
فالأصل في كل مرشح أن يبتعد عن أسلوب المناكفة والدعاية المضادة والهجوم الشخصي، بل يعرض كل منهم برنامجه وعقليته، ويكون هدفه هو بيان الأنسب للمرحلة وطبيعة الصعوبات والتحديات أو الارتقاء بالأمة والكيان السياسي، لكننا وجدنا المناظرة بين هاريس وترامب اتخذت نهجا استفزازيا من أجل دفع الخصم للوقوع في الخطأ، وهذه النقطة فوق كونها سلبية إلا أنها تدل على محاولة كل طرف هدم وتحطيم الطرف الآخر شخصا وحزبا، وهذا أسلوب سيئ جدا جعل من المناظرة فضيحة وليست أسلوبا يرتقي بالمترشحين لمصلحة الأمة والكيان السياسي.
وهذا أمر ما كان ليحصل لو كان لكل منهما برنامج ومشروع سياسي شامل يترشح على أساسه لينشغل به ويعرضه كأسلوب بنّاء، وليس أسلوب الهدم واغتيال الشخصية فضلا عن أن الهدم يدل على شخصية المترشحين وضعفهم.
ثانيا: أثارت هاريس نقطة غاية في الأهمية والدقة وهي اتهام ترامب وارتباطه بمشروع 2025 "خطة إعادة هيكلة الحكم في أمريكا"، وهو ما نفاه ترامب. وهذا المشروع أصدرته مؤسسة التراث، وهي مؤسسة بحثية وتعليمية مهمتها بناء وتعزيز السياسات العامة المحافظة ومقرها واشنطن.
"تتكون خطة المشروع من 920 صفحة، وتمثل رؤية المحافظين لما يجب أن يكون عليه شكل الحكومة الأمريكية المقبلة من خلال توسيع السلطات الرئاسية وإصلاح القوى العاملة الفيدرالية بحيث يمكن استبدال الموالين الحزبيين بها"، وفقا لموقع إن بي آر. ويقول الموقع: "إن المشروع لا يمثل خطة ترامب، ولكنها خطة وُضعت من أجل رئاسته في حال فوزه في الانتخابات". وسبق لبايدن أن قال: "إن مشروع 2025 يجب أن يخيف كل أمريكي لأنه سيمنح ترامب سلطة لا حدود لها على حياتنا اليومية".
هذا المشروع يرتكز على أربع ركائز من شأنها أن تمهد الطريق لإدارة "محافظة فعّالة: أجندة السياسات، والموظفين، والتدريب، وكتاب قواعد اللعبة الذي يستغرق 180 يوما"، بحسب الموقع الرسمي للمشروع.
وتتناول الخطة تفاصيل الإصلاحات الشاملة للسلطة التنفيذية، ومن بينها تجريم المواد الإباحية وفرض حظر شامل عليها وحل وزارتي التجارة والتعليم، ووقف مبيعات حبوب الإجهاض.
كما تدعم الخطة نشر الجيش "للمساعدة في عمليات الاعتقال" على طول الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك وعمليات ترحيل جماعية لملايين المهاجرين غير الشرعيين، وفقا لصحيفة نيويورك تايمز.
كذلك تدعو الخطة، التي يقودها مسؤولون سابقون في إدارة ترامب، إلى إقالة الآلاف من موظفي الخدمة المدنية وتوسيع سلطة الرئيس وتخفيضات ضريبية شاملة.
فيما قال ترامب "لا أعرف شيئا عن مشروع 2025.. ليس لدي أي فكرة عمن يقف وراء ذلك. أنا لا أتفق مع بعض الأشياء التي يقولونها وبعض الأشياء التي يقولونها سخيفة وسخيفة للغاية".
وللخروج من علاقة ترامب وفريقه بالمشروع فإن مجرد التفكير بإعادة النظر ببعض القضايا الدستورية وتوزيعات السلطات لحساب السلطة التنفيذية تدل على خطورة قادمة في تفكير نخب يمينية ستجعل من أمريكا دولة دكتاتورية ليس فقط بوأد مبادئ الثورة الأمريكية خارجيا وإنما أيضاً داخليا فيما يتعلق بالحريات.
ثالثا: إن المتابع للمناظرة يجد أنها خلت من مشروع سياسي كامل من الطرفين حيث انصب البحث على الهجوم وإثارة الطرف الآخر ومحاولات الدفاع، فيما طرحت بعض القضايا من بعض التصورات في كيفية التعامل مع الاقتصاد والتعرفة الجمركية وأثرها على التضخم والحروب التجارية، فمثلا يقول ترامب إنه "سينهي الحرب في غزة وأوكرانيا" ولكن لا نعلم كيف؟ وعلى حساب من؟ وهل هذا القول استراتيجية سياسية أم مغامرة سياسية لها آثارها الضخمة وتبعاتها الخطيرة؟ ومثلا قالت هاريس: "إن هذه الحرب يجب أن تنتهي ويتم وقف إطلاق النار وتحرير الرهائن، ويجب أن يكون هناك حل دولتين لإعادة بناء غزة". في حين، سعى ترامب لجذب يهود أمريكا، وقال "إن هاريس تكره (إسرائيل)، ولن تكون خلال سنتين إذا فازت هاريس".
ختاما: إن سقوط وضعف الإمبراطوريات لا يأتي عادة فجأة، بل له أسباب ومقدمات في مرحلة زمنية قد تقصر وقد تطول لاعتبارات متعددة لكنها في طريق الأفول، وأمريكا ركبت هذه السكة نحو الانحدار، وهذا القول ليس ضربا من الخيال ولا تمنيات، بل كثير من المفكرين الأمريكيين ذكروه وألفت المجلدات في الحديث عن الأفول والانحدار، ولكن أفول أمريكا الحقيقي سيكون على يد دولة مبدئية تنافسها على القيادة الدولية، وهي الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة القائمة قريبا بعون الله.
رأيك في الموضوع