تعيش أوروبا اليوم أسوأ أيامها منذ نشأتها فهي بين الحنين للماضي وقيادة العالم وبين أوهام المستقبل الذي يئن تحت ضربات العوامل الخارجية والداخلية في مرحلة سقوط إلى وادٍ سحيق، ولا أدل على ذلك من اعتراف أبرز الدول الداعية للوحدة الأوروبية وهي فرنسا، حيث أطلق رئيس وزرائها فرانسوا بايرو، في 20 كانون الثاني/يناير 2025 أن فرنسا وأوروبا مهددتان "بالسحق" بعد عودة ترامب للبيت الأبيض، حيث شهدت العلاقات الأوروبية الأمريكية توترات في فترة حكم ترامب السابقة لأمرين اثنين وهما:
1- مطالبة دول الناتو بالوصول إلى تخصيص 2% من الناتج الإجمالي المحلي على موازنات الدفاع.
2- توازن المصالح والعجز التجاري في ميزان المدفوعات والتعرفة الجمركية.
وتأتي الولاية الثانية لترامب في ظل وجود تحديات رئيسية كبرى لأوروبا وهي:
1- الحرب الأوكرانية الروسية وتداعياتها على أوروبا.
2- حلف الناتو والأمن الأوروبي والدفاع عن أوروبا ونسبة المشاركة للحفاظ على الأمن الأوروبي في ظل الأخطار الخارجية وأبرزها روسيا وتهديد ترامب بالانسحاب.
3- عودة الحديث عن العلاقات التجارية مع أمريكا والحروب التجارية والتعرفة الجمركية ونسبتها وضعف الاتحاد بخروج بريطانيا.
4- مطالبة ترامب بشراء جزيرة غرينلاند وتغيير خرائط أوروبا والأمن القومي والمحيط المتجمد.
5- ضعف الاقتصاد والعجز والديون على بعض الدول الأوروبية وانتقال بعض الشركات لأمريكا وغلاء أسعار الوقود بعد الغاز الروسي وتهديد ترامب ومخاوف الدول والشركات من عقوبات أمريكا ومنع الدخول لأسواقها.
6- تصاعد اليمين الأوروبي بل ووصوله للحكم في بعض الدول والتناغم مع عقلية ترامب في بعض القضايا والأزمات الداخلية.
7- ذكرت مجلة بولتيكو: "إن عودة نجم تلفزيون الواقع إلى السلطة في واشنطن ليس فقط اختباراً للعلاقات عبر الأطلسي، بل أيضاً يُعتبر خطراً وجودياً على الوحدة الأوروبية، وسيكون أبرز مُحفّزاتها السياسة التجارية التي بدأها ترامب مع البلدان الأوروبية بفرض ضرائب على العديد من السلع المُصدَّرة إلى الولايات المتحدة، وملف الإنفاق على الناتو".
هذه النقاط مهمة وذات شأن كبير في محاولة فهم مستقبل الاتحاد الأوروبي وأبرز الملفات وأخطرها فضلاً عن وجود ملفات صعبة أخرى وإشكاليات كبرى وانقسامات خطيرة بين دول الكتلة الأوروبية منها العلاقة مع الصين وروسيا والاتفاقيات الدفاعية الثنائية والنفوذ الأمريكي في بعض الدول الأوروبية، وبعض الأحزاب والمؤسسات وانعدام وحدة الرأي السياسي والعسكري.
صحيح أن هذه الملفات يحتاج كل منها إلى بحث مستقل وطويل لأهميتها وخطورتها وآثارها، لكن سيكون لنا وقفة إجمالية مع بعضها، وأعلاها حالياً هو ما يتعلق بوجود ترامب في الحكم والمشكلة الداخلية.
إن فكرة الوحدة الأوروبية كانت حلماً جميلاً ولكن هذا الحلم كان مناماً وَرِياً حمل في ذاته عوامل فنائه قبل بنائه إذ ليست له أرضية قوية يستند إليها لا بل له عوامل هدم أكثر من عوامل البناء مثل القوميات الأوروبية ورفضها الوحدة.
أوروبا لم تتقدم بل تأخرت كثيراً مقارنة بغيرها وتقدمت عليها بعض الدول في مجالات عدة وكلما كانت تشتد الأزمات عليها علت وظهرت التصريحات حول وحدتها وقدرتها لكنها صرخة في واد لا تسمن ولا تغني من جوع.
نعود فنقول إن أهم نقطتين الآن من المخاطر التي تحيط بأوروبا هما:
الأولى: عقلية وإدارة ساكن البيت الأبيض.
الثانية: المخاطر الداخلية التي تعصف بالوحدة الأوروبية.
أما النقطة الأولى: وهي وجود ترامب وإدارته وكيفية التعامل مع أوروبا كوحدة واحدة، يقول غاي فيرهوفشتات، السياسي البلجيكي في مقابلة مع موقع نيو أتلانتيك "إن الأوروبيين كانوا دائماً يعتقدون أن أمريكا تقف إلى جانبهم في كل الملفات. لكن الوضع تغير مع دونالد ترامب" ويتحدث فيرهوفشتات، الذي تكفل بمناقشة ترتيبات البريكسيت مع بريطانيا بصفته عضواً في البرلمان الأوروبي، "إنه للمرة الأولى في التاريخ يرغب رئيس أمريكي بانهيار الاتحاد الأوروبي".
وكذلك دونالد توسك، رئيس المجلس الأوروبي، وجه رسالة إلى رؤساء حكومات ودول الاتحاد يقول فيها: "إن أمريكا ترامب باتت في مستوى دولتي روسيا والصين وحركة الإسلام الراديكالي".
وحسب ما كشفه موقع وورلد كرانش، فقد كتب توسك: "إنه للمرة الأولى في تاريخ الاتحاد الأوروبي، هناك قوى خارجية متعددة تحمل نسقاً معادياً لهذه المنظمة القارية".
فترامب لا يعتبر الاتحاد الأوروبي شريكاً لبلاده بل يريد التعامل مع كل دولة لوحدها وذلك بسبب أن الاتحاد الأوروبي قوّة اقتصادية لا يستهان بها ولو ضعفت عما كانت عليه، لكنها قوة اقتصادية جبارة، والحوار مع تكتل اقتصادي ضخم سيجعلهم أكثر قوة في مفاوضاتهم التجارية والاقتصادية، عكس ما سيكون عليه الحال لو جرى التفاوض مع كل دولة وحدها.
هذه الفلسفة التي ينطلق منها ترامب فلسفة صحيحة خاصة أنه يستغل نقاط ضعف الوحدة والمخاطر الداخلية التي تعصف بدول الاتحاد على رأسها أولى الضربات التي آذت الوحدة الأوروبية وهي البريكسيت وتشجيع بريطانيا على الخروج والوعود التي وعدها لهم بعد الخروج.
وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يعد كارثة بكل المقاييس، لمكانة الاتحاد على المستوى الدولي، حيث أضعف من قوة القرار الأوروبي الاقتصادي وقوة المنافسة الدولية مع القوى الأخرى.
فقد تعهد ترامب بفرض الضرائب والرسوم الجمركية لخفض العجز في الميزان التجاري الأمريكي، وحماية الصناعات الأمريكية من منافسة السلع المستوردة. ومن المتوقع أن تصل هذه الرسوم إلى 10% على الصادرات الأوروبية.
وفي مسألة الأمن الأوروبي أظهرت تهديدات ترامب على الأوروبيين سلبية خطيرة جداً - لعدم وجود وحدة دفاعية مشاركة - وهي التوجه نحو المشاريع الدفاعية الفردية والثنائيّة على حساب الأمن الكلي للقارة.
وفي مسألة غرينلاند علق وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو: "نحن قارة قوية" وأكد أن الاتحاد الأوروبي "لن يسمح لدول أخرى بمهاجمة حدوده".
أما النقطة الثانية: فهي نمو حركات اليمين الشعبوي، التي ازدادت شعبيتها في ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبولندا وهولندا، بل وصلت قيادات هذا اليمين إلى الحكم وهي مع فكرة ترامب بالخروج من الاتحاد الأوروبي فضلا عن أن نظرتها السياسية في بعض القضايا الداخلية والخارجية مختلفة تماماً عن التوجهات التقليدية لدول الاتحاد.
فقد ذكرت الأخبار "في ظل تصاعد الأزمات السياسية والاقتصادية، تعيد أوروبا فرض الرقابة على حدودها، ما يثير مخاوف من تهديد الوحدة الأوروبية".
وفي هذا الصدد، قال الدكتور فرانز هيرمان، المحلل السياسي من برلين، في حديثه لقناة سكاي نيوز العربية: "هذه الإجراءات تعكس المخاوف من زيادة تدفق المهاجرين وتراجع السيطرة الأمنية، في خطوة قد تمهد لنهاية الحلم الأوروبي. وإعادة فرض الرقابة الحدودية قد تكون بداية لتفكك أوسع داخل الاتحاد الأوروبي، ما يهدد الإنجازات التي تحققت على مدى عقود. والأزمات ساهمت في زيادة النقمة الشعبية وتعزيز النزعة القومية، ما يضعف قدرة الاتحاد الأوروبي على مواجهة التحديات بشكل موحد".
فهذه السياسات تعكس مدى خطورة صعود اليمين المتطرف في مشروع الوحدة حيث يقول بافل زيركا المحلل في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: "من المحتمل أن يؤثر التحول إلى اليمين على السياسات المتعلقة بالمناخ والهجرة وتوسيع الاتحاد الأوروبي والميزانية وسيادة القانون".
وختاما: هذه الأمور تظهر صراعاً قويا بين قوى أحدها متغطرسة جداً لا تؤمن إلا بمصلحتها ولو على حساب أقرب حلفائها مع خصم أثقلته الجراح والأمراض وانعدام التفكير السياسي لوجود حكام وطبقة سياسية فاسدة وضعيفة. وللتدليل على هذا الرأي يقول مايكل غالر عضو البرلمان الأوروبي وخبير السياسة الخارجية في الكتلة الديمقراطية المسيحية في البرلمان الأوروبي: "أصبح واضحاً من جديد للسياسيين وصناع القرار في الاتحاد الأوروبي أنه لا يمكن الدفاع عن أوروبا إلا بمساعدة الناتو وهذا هو السبب في أن "البوصلة الاستراتيجية" للاتحاد الأوروبي لا تتنافس بأي حال من الأحوال مع الناتو وأن "الدفاع الجماعي" يجب أن يستمر بالتعاون مع الناتو في المستقبل المنظور".
ولعل هذه من إبداعات القادة المؤسسين للولايات المتحدة الذين قيدوا أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية بقيدين من فولاذ هما مظلة الناتو ومشروع مارشال، لتبقى أوروبا قيد الإرادة الأمريكية لتعيش مرارة الذل والقهر والاستعباد كما أذاقتها لشعوب العالم.
رأيك في الموضوع