أعلنت الحكومة الإيرانية وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي إثر سقوط طائرته، وكانت المروحية التي تقل إلى جانب رئيسي الذي تولى سابقا قيادة السلطة القضائية في البلاد، وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، ومحافظ أذربيجان الشرقية مالك رحمتي، وإمام جمعة تبريز محمد علي الهاشم، و7 مرافقين آخرين، هبطت وسط غابات أرسباران في محيط قرية أوزي، بمحافظة أذربيجان الشرقية شمال غربي إيران، وسط ضباب كثيف صعّب إمكانية وصول فرق الإنقاذ إليها.
بداية، لا بد قبل الحديث عن مقتل الرئيس الإيراني والوفد المرافق الانتباه لبعض الأمور المهمة:
أولا: إن التحليل السياسي ليس ضربا من الغيب ولا سبقاً صحفيا ولا توقعات ودراسة الاحتمالات ولا بحث مَن هي الجهة المستفيدة من الحدث، بل هو قراءة الواقع بدون آراء مسبقة ولكن مع وجود المعلومات المتعلقة بالواقع، وهذا يقتضي جمع كافة المعلومات المرتبطة بالحدث والابتعاد عن أية أخبار مضللة أو لا علاقة لها بالحادث.
ثانيا: معلوم عن هذه الدول الكذب والتضليل والخديعة وإخفاء الحقائق، فلا زال الحدث يكتنفه الغموض خاصة من إيران التي تناقضت فيها الأخبار والروايات، فقد اعتبر المحافظ والنائب السابق علي رضا بيجي أن سقوط مروحية الرئيس فيه الكثير من الغموض.
ثالثا: النظام الإيراني في واقعه هو قوى غير متجانسة؛ فمنها المحافظون المتطرفون والمحافظون المعتدلون، وكل منهم يحمل مواقف وآراء مختلفة عن الآخر، وكل يريد فرض رؤيته. هذا في جانب المحافظين فما بالك إذا اتسع الحديث ليشمل كافة الفئات الإيرانية من إصلاحيين ومعارضين.
رابعا: لقد أثبتت الأيام والأحداث قيام النظام الإيراني أو إحدى القوى فيه بقتل بعض الشخصيات، مثل مقتل آية الله بهشتي في بدايات الأمر، وقد كان من مؤسسي الحزب الجمهوري الإسلامي وكان رئيس السلطة القضائية ورئيس مجلس الثورة الإسلامية ومجلس الخبراء وثاني أقوى الشخصيات في الثورة بعد آية الله الخميني آنذاك. ومحمد كاظم شريعتمدار الذي سُجن في داره ومُنع من العلاج بأمر من النظام الإيراني ومرشد الثورة الخميني، وكان مصاباً بالسرطان. وآية الله حسين منتظري وهو عالم دين إيراني ومن أبرز قادة الثورة الإسلامية في إيران، وكان يعتبر اليد اليمنى للخميني، وقد وافق مجلس الخبراء عام 1985 على تعيينه نائبا للقائد الأعلى في إيران ولكن في عام 1989 تم عزله من مناصبه، وفُرضت عليه الإقامة الجبرية في منزله بمدينة قم، ليبقى فيه حتى وفاته في 19 كانون الأول/ديسمبر 2009 بسبب أزمة قلبية. فهذا النظام كعادة الأنظمة القمعية يقتل ويسجن كل من يختلف معه أو يحاسبه على جرائمه فيتم التخلص منه سواء بالقتل أو الإبعاد من المشهد السياسي بفرض الإقامة الجبرية مثل مهدي كروبي.
خامسا: هناك غرابة في أمر الوفد المرافق للرئيس وهو وجود وزير الخارجية مثلا في أمر لا يتعلق بالسياسة الخارجية، ووجودهم جميعا في طائرة واحدة وخروجهم في جو عاصف وعدم اتخاذ الإجراءات التقنية والأمنية المعلومة عند الدول فيما يتعلق برئيس دولة، بل تحدثت بعض الأخبار عن إصرار خامنئي على ذهاب رئيسي.
سادسا: طائرة الرئيس قديمة جدا كما يقال، ألم يكن بإمكان إيران شراء طائرة من روسيا أو الصين؟ ولماذا استخدام طائرة من أيام الشاه، فضلا عن الحديث عن عدم وجود تقنيات مهمة جدا فيها؟
هذه مقدمات مهمة في دراسة الحدث وواقع إيران لا بد منها.
أما فيما يتعلق بمقتل رئيسي فلا شك أنه من رجالات الثورة والمحافظين المتشددين جدا وهو شخصية متأصلة في النظام ومقربة جدا من المرشد وبعض القوى المحافظة، ومعلوم دوره القذر بقتل المعارضين بسبب قيادته التي عرفت بـ"لجنة الموت" في عام 1988، واتهامه بالمسؤولية عن إعدام آلاف السجناء السياسيين في العام نفسه، إلا أن رده على تلك الاتهامات كان بأنه يعتز بكونه "مدافعا عن أمن الشعب".
وبظني حتى نستطيع فهم حقيقة مقتله هناك نقاط لا بد من معرفتها:
أولا: الصراع على خلافة المرشد الأعلى علي خامنئي هو محل صراع عنيف خاصة أن هذا المنصب يتحكم بالسلطة المطلقة في إيران، وله القول الفصل في أهم القضايا، ويضع سياسات وتوجهات البلاد تجاه العالم الخارجي ويملك القرارات الداخلية فهو مطلق النظر، وكان من أبرز المرشحين لهذا المنصب:
1- الرئيس الإيراني (إبراهيم رئيسي)، وهو من أكثر المرشحين حظوظا لخلافة خامنئي.
2- مجتبى خامنئي (ابن المرشد الأعلى علي خامنئي) مع إشكالية الوراثة.
3- صادق لاريجاني، ولكن حظوظ لاريجاني في خلافة المرشد الحالي علي خامنئي تبدو ضعيفة، لأسباب عدة أهمها أنه ليس فقيهاً مجتهداً على نمط الفقهاء الحوزويين المجتهدين، كذلك وجود توترات وخلافات بينه وبين أركان النظام ومؤسساته، فقد انتقد الأجهزة الأمنية بعد استبعاد أخيه من الترشح لرئاسة الجمهورية، وتمّ اتهامه بالفساد في الفترة التي كان فيها رئيساً للسلطة القضائية.
ثانيا: الصراع متوتر ومستمر بين الأجنحة المحافظة وتلك الإصلاحيّة في قلب المنظومة الحاكمة في طهران، وفي حال وصول رئيسي لولاية الفقيه سيكون هو الرجل القوي، وسيترتب عليه توترات داخلية وخارجية، وإن التخلص من الرئيس الإيراني (إبراهيم رئيسي) سيمنع وصوله إلى المنصب الأعلى في النظام الإيراني. وهذا الأمر ضروري جدا عدم إغفاله في بحث مقتل رئيسي.
ثالثا: أما الأمر الآخر والذي يجب عدم تجنبه وهو المباحثات السرية بين الولايات المتحدة وإيران في مسقط (عُمان) بشأن الملف النووي الإيراني والتي انتهت دون إحراز تقدم بعد تصادم وجهات النظر وتعنت الفريقين في مواقفهما.
وقد أفاد موقع أكسيوس الأمريكي وصحيفة أرمان أمروز الإيرانية بعقد مباحثات غير مباشرة وصفت بالمصيرية بين ممثلين عن الإدارة الأمريكية وإيران لمناقشة إحياء الاتفاق النووي لإنهاء مرحلة الجمود ولو عبر ما وصف بالعقد المؤقت، ومناقشة الصراعات الإقليمية على خلفية عدوان كيان يهود على قطاع غزة وتداعيات ذلك على دول المنطقة والعالم.
وفي ذلك السياق تسعى طهران لإبداء مرونة تجاه إدارة بايدن تحسبا لعودة ترامب صاحب الأجندة الصارمة ضدها للبيت الأبيض، وفي المقابل يرغب بايدن في تحقيق إنجاز دبلوماسي مع إيران يغطي على انحيازه الكامل لكيان يهود ويعرقل وصول ترامب للسلطة، وهو ما يتطلب (من الجائز) عدم وجود رئيسي وعبد اللهيان.
وعلى فرضية هذا الأمر فإن من مصلحة بعض القوى الواقعية التي تسعى لإخراج إيران من العقوبات وإعادة ملف الاتفاق النووي قبيل الانتخابات الأمريكية في ظل مخاوف من عودة ترامب وعودة إيران إلى العقوبات الأشد والأعنف، من مصلحتها وجود شخصية واقعية، وهو مطلب ضروري ومهم بالنسبة للدولتين إيران والولايات المتحدة.
وبناء على جميع ما سلف فإن الحديث عن دور إحدى قوى النظام بمقتل رئيسي ليست بعيده بل هي أقرب إلى قراءة الواقع.
رأيك في الموضوع