لقد كان موقف بريطانيا من الوحدة الأوروبية موقفاً عدائيا بل وقفت ضده في البداية لأنها رأت فيه خطراً عليها وعلى مصالحها، فعملت على إبطاله وتعطيله في البداية، لكن مشروع السوق الأوروبية المشتركة أصبح واقعا وله آثار إيجابية كبيرة على أرض الواقع، وأصبح حقيقة ماثلة للعيان، فأرادت بريطانيا الدخول فيه لتعطيله، ولكن وعي وإدراك ديغول (رئيس فرنسا 1959 إلى 1969) على هدف الإنجليز حال دون تحقيق هدفها بحيث منعها من الدخول فيه، حيث رفض طلبات المملكة المتحدة للانضمام للمجموعة الاقتصادية الأوروبية في عامي 1963 و1967، وقال: "إنَّ عدداً كبيراً من خصائص الاقتصاد البريطاني لا تتفق مع أوروبا، وإنَّ بريطانيا تكنُّ عداءً كبيراً لأي مشروع أوروبي"، وكان يعتقد أن بريطانيا غير جادة في موضوع الوحدة الأوروبية، وقد تكون ترغب في دخولها لإفشالها، وهذا كان صحيحا في تلك الفترة.
ثم تقدمت المملكة المتحدة بطلب ثالث للانضمام فور ترك ديغول الرئاسة الفرنسية عام 1969، ونجحت في الانضمام للمجموعة الأوروبية، وبحلول أواخر الستينات فاقت صادرات بريطانيا إلى أوروبا الغربية صادراتها إلى دول الإمبراطورية البريطانية، وهذا الأمر جعل بريطانيا تضع قدماً لها في أوروبا، وقدماً مع أمريكا لكنها رأت في الاتحاد الأوروبي مصلحة لها تستقوي فيه على أمريكا، وتحقق من خلاله مصالح كبرى، وأخذت تبتز الأوروبيين بشروط البقاء والامتيازات والاستثناءات لها، حيث قامت بأول استفتاء حول بقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي في عام 1975، وكان حزب العمال الحاكم بقيادة هارولد ويلسون قد خاض الانتخابات العامة في تشرين الأول/أكتوبر 1974 مع التزام بإعادة التفاوض حول شروط عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، وكانت نتيجة التصويت النهائي 67.2% لصالح البقاء، ثم انسحبت المملكة المتحدة من نظام النقد الأوروبي الذي أسس في عام 1979، والذي كان مقدمة لإنشاء عملة اليورو.
إذاً بريطانيا دخلت الاتحاد لمصالحها هي ووفق شروط معينة تبتز الأوروبيين بالبقاء، والتهديد بالخروج تحت موضوع الاستفتاء، وحتى لا تخرج كانت أوروبا تقدم لها بعض التنازلات تلو التنازلات حتى حدث الاستفتاء في حكومة كاميرون، وكانت نتيجة الاستفتاء غير متوقعة وانقلب السحر على الساحر؛ حيث أيد 52% من الناخبين البريطانيين الخروج من الاتحاد وقدمت حكومته استقالتها.
وهنا كانت بداية النفق، فقد قامت بريطانيا بالاستفتاء من أجل الابتزاز وهي راغبة بالبقاء، وسبب الابتزاز كان معلوما، وكانت أوروبا تدرك أن الولايات المتحدة تعمل على ضرب مشروع الوحدة وإخراج بريطانيا منه، حيث أعلن مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون بشكل صريح في أيار/مايو 2019 أن الولايات المتحدة تريد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لأن ذلك سيقوي حلف الناتو، معتبراً أن وجود دولة أخرى قوية ومستقلة سيساعد الحلف على أن يكون أكثر فاعلية، وقد وجه ترامب مراراً انتقادات واضحة للاستراتيجية التي اعتمدتها رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي في ملف بريكست، ونصحها بمقاضاة الاتحاد الأوروبي، كما استبق ترامب زيارته لـلندن بالتأكيد على أن بريطانيا تحتاج لتكون لها حدودها الخاصة، وتدير شئونها الخاصة، بل وحث رئيس وزراء بريطانيا المقبل على الخروج من دون اتفاق، والانسحاب من محادثات الخروج من الاتحاد إذا لم تُعطِ بروكسل لبريطانيا ما تريده، كما دعا بريطانيا لرفض دفع ميزانية انفصالها عن الاتحاد الأوروبي، ووعدها ترامب مقابل الخروج بتوقيع اتفاقية تجارية ضخمة بينهما مقابل خروجها قائلاً: "إن الولايات المتحدة وبريطانيا ستتوصلان إلى اتفاق تجاري مهم للغاية ومثير للإعجاب" على حد تعبيره، بعد اتفاقية بريكست، ثم خاض جونسون انتخابات رئاسة الوزراء تحت شعار: "فلنُنجز الخروج من الاتحاد الأوروبي"، لتخرج بريطانيا بتاريخ 31 كانون الأول/ديسمبر 2020 رسمياً من الاتحاد الأوروبي، بعد مفاوضات شاقة وطويلة جداً، وبعد عضوية دامت نحو خمسين عاماً، وليصرّح جونسون بعد ذلك: "هذه لحظة عظيمة للبلاد، لقد نلنا حريتنا، والأمر متروك لنا لتحقيق أقصى استفادة منه"، أملا منهم بتوقيع الاتفاقية التجارية مع أمريكا، لتأتي حكومة بايدن وتعيد النظر في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، حيث ذكر رئيس التجارة في الاتحاد الأوروبي فالديس دومبروفسكيس: "لقد اتفقنا على وقف نزاعنا التجاري حول الصلب والألمنيوم مؤقتاً، وبدء التعاون بشأن ترتيب عالمي في شأن الصلب والألمنيوم المستدامين"، وتعيد النظر في قرارات ترامب السابقة مع الاتحاد، في الوقت الذي امتنعت فيه عن التوقيع على اتفاقية التجارة مع بريطانيا، لتخرج علينا ليز تراس رئيسة الوزراء البريطانية قائلة: "من غير المرجح أن يتم إبرام صفقة تجارية بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة، على المدى القصير إلى المتوسط، مبينة أنها ستركز على التحالفات في مكان آخر".
لتقف بريطانيا أمام حقيقة مرة ومؤلمة، وأمام تداعيات ضخمة وآثار معقدة جداً، بل وصل الأمر إلى بقاء وحدتها، فضلا عن الآثار السياسية والاقتصادية الضخمة التي خسرتها بريطانيا... وحتى لا نطيل فقد أظهرت نتائج الانتخابات العامة البريطانية في 05 تموز/يوليو 2024 تقدماً كبيراً لحزب العمّال، فبعد ظهور النتائج النهائية، حصل حزب العمّال على 412 مقعداً بزيادة تقدر بـ 214 مقعداً عن الانتخابات السابقة، في حين تراجع حزب المحافظين ليحصل على 121 مقعداً بنسبة تراجع تقدر بـ 251 مقعداً عن الانتخابات السابقة.
أما أسباب نجاح حزب العمال فيعود إلى:
1- التراجع الاقتصادي.
2- ضعف السياسات المتبعة لضعف رجال الحكم وحجم الأزمات التي باتت عصية على الخروج منها.
3- الأحزاب اليمينية في أوروبا وظهور لاعب جديد وتغير قواعد اللعبة.
4- الحرب الروسية الأوكرانية والصراع مع الصين كذلك.
هذه الأمور وغيرها في كافة المجالات أدت إلى عجز قادة بريطانيا عن إيجاد حلول لمشاكلهم فكانت النتائج الأخيرة، بل أحدثت تغييرا في موقف الشعب بحيث (أصبحت غالبية المواطنين البريطانيين تنظر إلى قرار بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي - والذي اتخذ تحت إدارة حزب المحافظين - بأنه لم يكن في الصالح البريطاني، وأن سلبياته الماثلة أمامهم أكبر كثيراً من الإيجابيات. في هذا الصدد، يُشير استطلاع رأي أجراه معهد إبسوس في شباط/فبراير 2024 إلى أن 52% من البريطانيين يرون أن مجمل آثار الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي كانت سلبية، في مقابل 22% فقط يرون أنها كانت إيجابية، و22% آخرين يعتقدون أنها لم تصنع فارقاً).
لذا كان مجيء حزب العمال أمراً طبيعيا ومتوقعا (مع الدفع الخفي من الدولة العميقة) لإعادة العلاقة مع أوروبا ومحاولة عودة بريطانيا لها لعلها تعالج بعض أزماتها بعدما رأت ما فعلته أمريكا بهم، خاصة وأن إمكانية عودة ترامب للحكم باتت ممكنة وقريبة، وستبقى الاستراتيجية الأمريكية ثابتة سواء أكانت مع ليونة الديمقراطيين أو خشونة ترامب. ومعروف أن حزب العمال يستطيع تجاهل الطلبات الأمريكية بل كانت من القواعد السياسية في بريطانيا في مسألة تناوب الحكم بين الحزبين هي العلاقة مع الاتحاد الأوروبي والأزمات الضخمة والقرارات الصعبة والعلاقة مع أمريكا. وكانت إحدى هذه الأمور كفيلة بعودة حزب العمال الذي يستطيع التعامل مع هذه الملفات والتهرب من الضغوط الأمريكية.
لذا فإن محاولة حزب العمال لقاء قادة الاتحاد الأوروبي والعودة إلى الاتحاد الأوروبي جادة، مع إدراك ووعي القادة الأوروبيين على دوافع عودة بريطانيا، لكن أوروبا ترى وجود بريطانيا أقل كلفة من الولايات المتحدة خاصة وتداعيات الحرب الروسية مع أوكرانيا طالتهم جميعا، فيبدو أنها ستكون هناك محاولات جادة لإعادتها إلا إذا طرأت عوامل جديدة على الطاولة سواء ما تعلق بالحرب الروسية الأوكرانية أو الضغوط الأمريكية خاصة على ملف إيرلندا وتحريك بواعث الانفصاليين.
إن بريطانيا تعاني من الضعف أعلاه ومن الأزمة أشدها ومن الظروف أقساها، ولعله يمكن من خلال كتاب "السياسة على الحافة" للكاتب والسياسي البريطاني روري ستيوارت، الذي صدر في أواخر العام الماضي، لعله يمكن فهم بعض جوانب التحديات البريطانية الراهنة.
رأيك في الموضوع