دعا الرئيس الصيني شي جين بينغ قبل أسبوعين قوات بلاده إلى تعزيز استعدادها للحرب، بعد أيام فقط من إجراء بكين تدريبات عسكرية واسعة النطاق حول تايوان. ونقلت وسائل إعلام رسمية صينية عن الرئيس شي، أثناء زيارته لواء من قوة الصواريخ في الجيش الصيني، الخميس، قوله: "إن على الجيش تعزيز التدريب، والاستعداد الشامل للحرب، وضمان أن للقوات قدرات قتالية صلبة". وأضاف شي أن على الجنود أن "يعززوا قدراتهم الاستراتيجية على الردع والقتال"، مشيراً إلى أنه على الجيش الصيني أن "يحمي بقوة الأمن الاستراتيجي للبلاد ومصالحها الأساسية".
مما لا شك فيه أن على كل من ترامب وهاريس كمرشحين للرئاسة الأمريكية أن يضعا نصب عينيهما الدفاع عن موقع الولايات المتحدة بوصفها دولة أولى في العالم وبقاء الهيمنة الأمريكية ومحاولة إحداث مشاكل واضطرابات لكل مهيمن إقليمي متوقع وليس دوليا.
والبحث ليس فقط في تحديد التهديدات العالمية التي يجب على أمريكا أن تتصدى لها، مثل الصعود الصيني، والصراع مع روسيا، والسباق على التكنولوجيا والتقنيات المتقدمة، ودراسة المخاطر ومعرفتها - وهذا لا شك مهم وضروري جدا في سبر أغوار المشاكل الدولية والمخاطر الإقليمية وكذلك المخاطر الداخلية في أمريكا - لكن الأمر لا يقف عند أهمية دراستها ومعرفتها وإنما في وضع الاستراتيجيات والخطط والأساليب والوسائل في التصدي لها وكيفية معالجتها بحيث تضمن ألا تخرج تلك المخاطر عن نطاق السيطرة وتبقى في حدود المسموح به أمريكياً. وهذه المعالجات تفرضها الدولة العميقة من خلال وضع الخطط وتحديد الأولويات، وتبقى مساحة معينة لكل رئيس قادم بحكم الدستور الأمريكي لتغيير بعض الوسائل والأساليب والأوراق السياسية وكيفية التعامل مع بعض إشكاليات تطبيق الاستراتيجيات وما يجدُّ فيها، وهذا الأمر سيُختَلف فيه ويتباين فيه التعامل من خلال دراسة طبيعة الحزب الجمهوري وعقلية الرئيس والحزب الديمقراطي وشخصية الرئيس، مع الإقرار بما جد على الساحة الأمريكية من انقسامات خطيرة وتباين الرؤى في بعض الملفات.
فمثلا يؤكد ترامب على إنهاء الصراعات الخارجية التي تشارك فيها الولايات المتحدة بطريقة أو بأخرى، ويعتمد نهجا يقوم على إبرام الصفقات بدلا من الالتزام بالقيود المؤسسية أو التحالفات، في المقابل تؤكد هاريس على أهمية التحالفات القوية والتعاون المتعدد الأطراف، وخاصة مع الشركاء الرئيسيين في أوروبا والناتو، لتعزيز مصالح أمريكا الاستراتيجية.
وقد جعلت أمريكا الصين من أخطر القضايا الخارجية وأخطر مهيمن إقليمي محتمل، لذا تجعل من خطر الصين في رأس الأولويات لها لكل من المرشحين كخط ثابت ومرسوم لا يمكن الحيد عنه أو تغافله، حيث مثَّل الصعود الصيني أكبر خطر وتحد سياسي واقتصادي لأمريكا، ويتجلى ذلك في اتفاق ترامب وهاريس على أهمية فرض التعريفات الجمركية على الواردات الصينية؛ لحماية القطاعات الحيوية وتحفيز التصنيع المحلي، بينما يختلف المرشحان حول القطاعات التي ينبغي استهدافها والدول التي ينبغي معاقبتها.
في كتاب "حرب غير محتومة: مخاطر نشوب صراع وخيم بين أمريكا والصين بقيادة شي جين بينج" لمؤلفه كيفن رود الذي شغل منصب رئيس وزراء أستراليا السادس والعشرين، منذ عام 2007 إلى عام 2010، ثم وزير خارجيتها منذ عام 2010 إلى عام 2012، وعاد بعد ذلك إلى منصب رئيس الوزراء في عام 2013، يقول مثلا: "يصل نفوذ شي إلى كل مستويات النظام الحاكم في بكين، إذ أحكمت "نزعته السلطوية الجديدة" قبضته على مقاليد السلطة". ويقول أيضا: "إنه يمكن تأطير آلية صنع السياسات في عهد شي ضمن عشر "دوائر اهتمام تنطلق من مركزٍ واحد"، وتشمل ترسيخ سلطته المحلية، و"استعادة السيطرة" على تايوان، وضمان النمو الاقتصادي الطويل الأجل، وتقوية الجيش الصيني، وزيادة العمق الاستراتيجي في المحيط الهادئ".
وهذه النظرة العميقة لا شك تجعل من الصين محل اهتمام وبحث كبير، لذا سيكون على ساكن البيت الأبيض إيلاء الصين أهمية كبرى ضمن استراتيجية أمريكا مع فارق الأساليب والوسائل في المواجهة مع الصين، حيث ينصب تركيز ترامب في المواجهة معها على الجوانب الاقتصادية والتجارية للتخلص التدريجي من جميع الواردات الصينية من السلع الأساسية. كما تعهد بفرض قواعد تحد بشكل صارم من الاستثمار الأمريكي في الصين والاستثمارات الصينية في أمريكا لتقتصر على تلك التي تخدم المصالح الأمريكية فقط. بينما تولي هاريس الأولوية للتركيز على المنافسة التكنولوجية مع الصين، مثل ضوابط تصدير أشباه الموصلات المتقدمة لتقييد وصولها إلى الصين، وتحفيز النمو المحلي للصناعات الاستراتيجية المرتبطة بالمعادن الحرجة والطاقة المتجددة.
وستعمد هاريس على بقاء المنظمات الإقليمية والتكتلات العسكرية في مواجهة الصين وبناء القدرات لدى هذه الدول وكذلك استمرار المشاركة في الأطر التي تقودها دول المنطقة مثل رابطة الآسيان والإطار الاقتصادي للازدهار في الإندو-باسيفيك، بالإضافة لتعزيز الروابط العسكرية في المنطقة. في الوقت الذي قد يميل فيه ترامب إلى الانخراط في مقايضة مع بكين بهدف انتزاع تنازلات تجارية في مقابل فرض قيود على التعاون الأمني الأمريكي مع تايوان، طبعا دون القبول بضمها من الصين وإعادتها لها، ولكن هذه المقايضة ضعيفة جدا وتحظى بمعارضة حتى داخل الحزب الجمهوري نفسه الذي يرى غالبية أعضائه أن الردع المتكامل للصين يتطلب مضاعفة التدابير الأمنية الاقتصادية فضلا عن تبني كثير من الأعضاء مواقف متعاطفة مع تايوان. في حين ستولي هـاريس الأولوية للحفاظ على الاستقرار في مضيق تايوان مع حث تايبيه على بذل المزيد من الجهود لتعزيز قدراتها الدفاعية لبقاء الصين ضمن دائرة المشاكل والمخاطر المحلية والإقليمية حتى لا تفكر أكثر من المسموح به أمريكيا.
ولكن هذه الأمور تبقى قائمة إذا لم تذهب منطقة الشرق الأوسط إلى حرب إقليمية كبرى وتحدث فيها المفاجآت التي ستقلب الأولويات الأمريكية وتخلط الأوراق، والله أعلم.
رأيك في الموضوع