هل يمكن أن نغلق كتاب التاريخ ونمتنع عن قراءته لكي نفهم قضية فلسطين، فنقف على الأسباب ونتلمس طريق الخلاص بدونه؟ سؤال يفرض نفسه بقوة بعد أكثر من عام من الحرب على قطاع غزة، بعد أكثر من عام من الإبادة واستباحة الدماء الزكية وتعدي كل الخطوط بكافة ألوانها، حتى بات كيان يهود يعربد في طول بلاد المسلمين وعرضها، تمتد يداه الآثمتان إلى اليمن تارة وإلى العراق تارة وإلى إيران تارة أخرى، حتى دعته غطرسته حين لم يجد من يقطع دابره إلى اجتياح لبنان، وارتكاب المجازر تلو المجازر فيه دون أن يردعه رادع.
أمام هذه الغطرسة والعربدة ما زالت آلية التعاطي مع القضية من كافة الجهات والمستويات المحلية والإقليمية والدولية كما هي، حركة كلاسيكية كأن الجميع فقدوا إحساسهم، وكأن الأمر طبيعي لا يستدعي أي تحرك جاد وطارئ، هي هي الحركة نفسها والمسارات ذاتها في خط مرسوم ومخطط قد أعد مسبقا، منذ وجدت المعاناة وأسست المأساة، وأنشئت القضية قبل مائة سنة، يوم أن أسقطت دولة الإسلام (1924-2024م)، يومذاك بيعت فلسطين ليهود، وأقيم الكيان المسخ، ورفع بنيانه ودعمت أركانه، وأحيط بالحراس والحماة من كل جانب، فكانت أنظمة العمالة والخيانة الحاكمة في بلاد المسلمين، والتي أقيمت على أطلال دولة الإسلام خير حارس وحافظ لكيان يهود، بالإضافة إلى مشاركته الغاية والهدف من وجوده ووجودها، في منع استعادة الأمة لسلطانها بما يمنع استعادتها كيانها ووحدتها عبر بناء دولتها من جديد.
لن أقف هنا عند تحركات القوى الدولية ومناقشة تصرفاتها، فإنها متوقعة وغير مستغربة، فتلك القوى هي العدو الأول للأمة الإسلامية، وهي أس الداء والبلاء، وما كيان يهود إلا زرع خبيث غرسته في الأرض المباركة، وما هو وأنظمة العمالة والخيانة القائمة في بلاد المسلمين إلا أدوات لقوى الاستعمار الكافرة، حددت لها وظيفتها ودورها بما يحقق مصالحها ويحافظ عليها، وقد برز ذلك جليا في الحرب الدائرة على قطاع غزة، فقد رأيت كيف تصدرت أمريكا قيادة الحرب وإدارتها منذ الأيام الأولى، ومثلها فعلت جميع الدول الأوروبية، على رأسها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، فقد جاءت أوروبا وأمريكا بكل ما تملك من إمكانيات عسكرية وسياسية وتقنية وإعلامية واستخباراتية لمد كيان يهود بتلك الإمكانيات، وتعزيز قوته وضمان تفوقه، بل كثيرا ما وجدناها تشارك في الميدان كتفا بكتف مع يهود، وهنا يمكننا إدراك حقيقة ضعف هذا الكيان وهشاشته إلى درجة عدم قدرته على حماية نفسه ذاتيا، وما يزيد من هذا الإدراك، ويجعلنا نجزم به هو ما دفع نتنياهو ليخرج مفاخرا وزاعما، أن كيانه فولاذي وليس كبيت العنكبوت ضعيفا، في محاولة رد شبهة التصقت بكيانه منذ تأسيسه، فشكلت لدى يهود قيادة وشعبا عقدة نفسية يسعون جاهدين لنفيها والتخلص منها دون جدوى، فأي مواجهة أو صدام مع كيانهم تكشف تلك الهشاشة والضعف، وقد برز ذلك كالشمس في رابعة النهار بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، أما رأيتم كيف مُرغ أنفه في التراب، وقد كسرت هيبته، وانفضح عجزه عن الردع، وهو ما عبر عنه رئيس وزرائه الأسبق إيهود باراك (هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 كسر الخوف من (إسرائيل)، ونجح في إلهام ملايين العرب والمسلمين.. تخيل مليون شخص بأسلحة بدائية وسكاكين يزحفون سوية نحو (إسرائيل)"!
كما أن طبيعة المواجهة والأطراف التي تخوضها مع كيان يهود تثبت وتؤكد هذه الحقيقة يوميا على مدار عام ونيف، فليس خافيا على أحد قلة العدد والعدة والعتاد في صفوف المجاهدين، الذين يقارعون جيش يهود المدجج بأعتى الأسلحة وأحدث التقنيات، وقدراته البرية والجوية والبحرية مدعوما بالقوات الغربية، ولا يزالون يتصدون له دون أن تلين لهم قناة أو تكسر لهم عزيمة، بينما يعجز كيان يهود أن ينال منهم أو يحقق أهدافه التي أعلن عنها، فذهب يمارس همجيته ووحشيته، ويستعرض قوته على أجساد العزل والآمنين من النساء والأطفال والشيوخ، يلقي على رؤوسهم أطنان براميله المتفجرة، ويلاحقهم في مراكز إيوائهم، فيحرق خيامهم ويهاجم مستشفياتهم ليجهز على جرحاهم على أسرة المرض وفي غرف الإنعاش.
كما قلنا فإن عداوة الدول الاستعمارية الكافرة للإسلام والمسلمين الأصل فيها أنها واضحة، ويجب أن يكون ذلك مدركا لكل مسلم، والتعامل مع تلك القوى يجب أن يقوم على أساس هذه العداوة، لذلك فإننا نستغرب، ولا يمكننا أن نتفهم تلك المناشدات والنداءات التي يوجهها، للأسف، بعض السياسيين، والأحزاب والعلماء، بل حتى بعض قادة المجاهدين، إلى تلك القوى الدولية الاستعمارية المجرمة والمؤسسات الدولية، كالأمم المتحدة، ومجلس الأمن، ومحكمة العدل الدولية، والجنائية الدولية، فلا يخفى على عاقل ارتباط هذه المؤسسات وغيرها بتلك القوى وهيمنتها عليها، ولا ينفذ من قراراتها إلا ما يحقق مصالح تلك القوى الاستعمارية الظالمة.
وسؤالنا إلى كل أولئك المسؤولين والسياسيين والأحزاب والعلماء، لماذا أسقطتم من حساباتكم أمتكم؟! هل عجزتم أن تفكروا خارج الصندوق الذي صنعه لكم أعداؤكم، فتتحرروا وتحرروا أمتكم؟! هل فقدتم الثقة بأمتكم؟ أم تراكم استسلمتم لعجزكم وهانت عليكم أنفسكم فرضيتم بحياة العبيد؟!
ندرك تماما أن ما تعيشه الأمة نتيجة طبيعية لأسباب ومسببات ليس المقام مقام بحثها أو نقاشها والاستفاضة فيها، ولكننا ندرك أيضا أنها ليست حالة طبيعية ولا دائمية، ويقع على عاتق المخلصين منكم العمل الجاد والدؤوب لإخراجها منها والنهوض بها.
وقد مرت الأمة الإسلامية خلال مسيرة حياتها في ظروف مشابهة، أو أشد منها قسوة، ولكنها تمكنت دائما من التعافي، وتجاوز معيقات نهوضها، بفضل ما لديها من مخزون عقدي ومفاهيم العزة والكرامة والوحدة والمسؤولية عن الآخرين من جهة، ومن جهة أخرى بفضل قيام قادة الأمة وعلمائها بمسؤولياتهم في قيادة الأمة والنهوض بها للقيام بواجباتها ومسؤولياتها، والأمثلة على ذلك في حياة الأمة وافرة وزاخرة.
إذا كنا جادين في سعينا لوقف الحرب الهمجية على الأرض المباركة وأهلها، وصد كيان يهود وتحرير المسجد الأقصى من ظلمه وطغيانه، نحتاج أن نفكر خارج الصندوق، نحتاج أن نتجاوز المستعمر الكافر بأفكاره وقوانينه، ومؤسساته وأدواته، فلا نظام دولي، ولا قوانين دولية، ولا مؤسسات دولية، لا لحدود سايكس بيكو وأنظمتها الوظيفية الممزقة للأمة، والحارسة لكيان يهود، لا لحسابات الربح والخسارة، لا لفقه الواقع المخذل للأمة والمثبط لهممها، لا لفقه الأولويات الذي لا يجعل قضية الإسلام عبر تطبيقه في دولة أولوية أولى، ولا يجعل تحرير فلسطين على رأس أولويات هذه الدولة، لا للعب على التوازنات الدولية، والتكسب من وراء صراع قواها وتناقض مصالحها، والركون إلى الظالمين والاستعانة بهم، لا لحصر قضية فلسطين بأهلها، وحبسها في إطار الوطنية العفنة، لا لاختزال قضية فلسطين في مساعدات ومعونات إنسانية، والاكتفاء لنصرتهم بالدعاء، لا لتقزيم قضية فلسطين ضمن صراعات فصائلية مسلوبة القرار والأجندة والولاء، لا لإخراج الجيوش من معادلة الصراع ومعركة التحرير.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع