في معرض حديث رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي عن مفاعيل لقاءاته مع المبعوث الأمريكي الخاص عاموس هوكشتاين، الذي يجوب المنطقة ذهاباً وإياباً، بين لبنان وفلسطين المحتلة، لفرض وقف إطلاق للنار ينقذ مرشحة الحزب الديمقراطي كاميلا هاريس أمام مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب، أشار نجيب ميقاتي إلى "أن حزب إيران في لبنان تأخر في فصل جبهة لبنان عن غزة"، ومع أنّ الحزب لم يعلن فصل الجبهتين بشكل واضح، غير أنّ التصريحات الصادرة عن مسؤوليه في الآونة الأخيرة بشأن الاستعداد لوقف إطلاق النار، وما واكبها من تصريحات رئيس مجلس النواب نبيه بري بشأن استعداد لبنان لوقف إطلاق النار، ثم هذه الإشارة الأخيرة من نجيب ميقاتي، عكست هذه الأجواء، أي أجواء فصل الجبهتين عن بعضهما، فما حقيقة هذا الأمر؟!
إنّ المدقق في الأمر منذ انطلاق الأحداث يلاحظ أنّ موضوع فصل الجبهتين من عدم فصلهما، ليس أمراً لبنانياً متعلقاً بالسلطة اللبنانية، ولا أمراً حزبياً متعلقاً بحزب إيران في لبنان بشكل صرف، بل هو مرتبط بحركة سياسية في المنطقة تديرها أمريكا، والدولة الدائرة في فلكها، إيران. وما يظهر الآن من موضوع الفصل بعد الربط ليس أمراً حديثاً، أي ليس وليد لحظة إعلان نجيب ميقاتي "تأخر" حزب إيران في لبنان في هذا الشأن.
إنّ جملةً من التصريحات أشارت لذلك، لكن قبل الخوض فيها، تجدر الإشارة إلى أنه خلال جولة هوكشتاين في شهر حزيران/يونيو 2024م أشارت مصادر دبلوماسية إلى أنّ الإدارة الأمريكية تسعى إلى إبرام صفقة شاملة وسريعة، حول غزة ولبنان والبحر الأحمر واليمن، وأن واشنطن تضغط بكل قوتها في سبيل تحقيق ذلك وإقناع يهود؛ وفي خلال تلك المدة تسارعت تصريحات السلطة اللبنانية ممثلةً بنجيب ميقاتي بدايةً، بربط مسار وقف جبهة لبنان بوقف جبهة غزة، واجه على إثرها هجوماً من بعض نصارى لبنان، بأنّ هذه الحكومة هي حكومة حزب إيران وحكومة وحدة الساحات، ثم أعقبتها تصريحات مماثلة لنبيه بري تؤيد ارتباط الجبهات، وواكب ذلك في حينها تصريحات مماثلة للأمين العام لحزب إيران في لبنان حسن نصر الله قبيل اغتياله في 27/9/2024م، إضافة لتصريحات خجولة لبعض أقطاب النصارى المؤيدين لحزب إيران في لبنان، ثم ما لبثت هذه التصريحات بالتراجع لكن بشكل غير مباشر، ففي 7/10/2024م ظهرت تصريحات غريبة في توافقها بين بعض النواب المعارضين للحزب والنواب المؤيدين له، تطالب بفصل جبهة لبنان عن جبهة غزة! سبقها في 30/9/2024م كلام لنبيه بري أشار فيه إلى "أنه في آخر تواصل مع الأمين العام لحزب إيران حسن نصر الله قبيل اغتياله، أبدى نصر الله عدم ممانعته لوقف إطلاق النار"، وخلال خطاب في 8/10/2024م صرح نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم (قبل تعيينه أميناً عاماً في 29/10/2024م) قائلاً: "نحن نؤيد الحراك السياسي الذي يقوم به الرئيس بري بعنوانه الأساس وهو وقف إطلاق النار"، دون الإشارة لربط الجبهتين. وقال في الخطاب ذاته إنّ "عنوان معركة حزب الله تحول من مساندة غزة إلى مواجهة الحرب (الإسرائيلية) على لبنان"، ولم يستخدم في خطابه مصطلح ربط جبهة لبنان بجبهة غزة تحديداً، إلا في سياق سردية تاريخ ما حصل من لقاءات مع موفدين ومسؤولين، بل استخدم في خطابه تعبيراً آخر بقوله: "لبنان لا يمكن فصله عن فلسطين، ولا المنطقة يمكن فصلها عن فلسطين"، وهذه فيها من العمومية ما فيها، بخلاف تخصيص الربط بين جنوب لبنان وغزة.
هذه التصريحات كلها تعكس الانتقال التدريجي من ربط الجبهتين إلى فصلهما، لتأتي تصريحات نجيب ميقاتي بشأن "تأخر" الحزب في الفصل، أكثر وضوحاً وتتويجاً لمسار الفصل! وسيراً في ترسيخ تطبيق القرار 1701 بشكل عاجل، هذا التطبيق الذي يدعو إليه هوكشتاين وميقاتي وبري، ولا تظهر ممانعة حقيقية لذلك عند حزب إيران في لبنان، بل إن كل تصريحات الأمين العام الحالي للحزب الشيخ نعيم قاسم تعكس الرغبة في السير في المسار الدبلوماسي، وعودة على خطابه في 8/10/2024م فقد ذكر أنه "بعد أن يترسخ موضوع وقف إطلاق النار وتستطيع الدبلوماسية أن تصل إليه، كل التفاصيل الأخرى تناقش وتتخذ فيها القرارات بالتعاون"!
وفوق كل هذا فإنه من الملاحظ فصل ما يحصل بين يهود وإيران عن غزة، بل حتى عن حزبها في لبنان، الذي تركته وحيداً يُقتل قادته وكل صفوفه الأولى، ولا يتم الحديث عن الأمر إلا أنّ السبب خروقات في مكتب قائد الحرس الثوري قآني، بل وصل الأمر لاتهام قآني نفسه، لكن دون سير جدي في كشف ملابسات كل هذه الخروقات، بل المعلومات التي بين يدي يهود التي مكنتهم من هذه العمليات بهذه السرعة والقوة.
إنّ هذا التغير في المواقف والتلاعب بالتصريحات ليعكس أن هذه التصريحات ليست مبدئية في توجهها، بل هي مرتبطة بما تريده أمريكا وعملاؤها والدائرون في فلكها، بما يحقق في النهاية مصالح هذا الحزب أو ذاك في الانتخابات الأمريكية. ولو لم تحقق للعملاء والدائرين في الفلك إلا الفتات الذي يقتاتون عليه للاستمرار في مناصب الحكم والسياسة؛ ومرتبطة ربما بقرب الانتهاء من تصفية الأجنحة العسكرية لهذه الفصائل، وتعنت نتنياهو في الاستمرار في محاولة تحقيق مكاسب على الأرض من جنوب لبنان وشمال غزة، قبيل انتهاء جولة الانتخابات الأمريكية، لتكون هذه المكاسب هي محل التفاوض وليس فقط الواقع المزري الموجود منذ سنين على الأرض؛ من الاحتلال والقتل والتشريد، وهل يُستغرب هذا على يهود الذين جادلوا الله عز وجل في بقرة؟!
إنّ الدعوة لفكرة فصل الجبهات والمسارات هي امتداد لفكرة تقسيم البلاد والعباد إلى كيانات هزيلة، التي رسخها الغرب الكافر المستعمر، منذ هدم الخلافة سنة 1924م، فالأصل الحذر من هذه الدعوات ومثيلاتها، بل الأصل مجابهة هذه الأفكار والدعوات، وتعزيز الفكرة التي رسخها رسول الله ﷺ بقوله: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، تعزيزها عند الأمة عموماً، وعند جيوشها خصوصاً، التي يجب أن تُبادر لنصرة فلسطين ولبنان، قياماً بدورها المنوط بها ديانة وعقلاً، دون اعتبار لحدود وحكام، ليروا أنّ الأمة والعاملين المخلصين سيكونون معهم على قلب رجل واحد في تحرير كل شبر محتل، وإقامة كل أحكام الدين، وعلى رأسها الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.
رأيك في الموضوع