يوم الخميس 9 كانون الثاني/يناير 2025م، اجتمع المجلس النيابي اللبناني لانتخاب الرئيس الرابع عشر للبنان، بعد سنتين من الفراغ الرئاسي منذ خروج ميشال عون من قصر الرئاسة في 30 تشرين الأول/أكتوبر 2022م، ليُنتخب قائد الجيش جوزيف عون بأغلبية مطلقة وصلت إلى 99 صوتاً من أصل 128 صوتا في الدورة الثانية من الانتخاب، بعد الدورة الأولى التي حصل فيها على 71 صوتا فقط، فيما كان يتوجب أن يحصل على 86 صوتا، أي ثلثي أصوات المجلس النيابي ليفوز من الدورة الأولى.
لقد انطوى هذا المشهد على مجريات كلها تدل على أن الأمر كما يقال دُبر بليل، فهم ذاتهم النواب الذين لمدة سنتين لم يستطيعوا التوافق على اسم لرئيس، بل كان اسم قائد الجيش محط خلاف، فبعضهم يراه اسما كاسحا يؤثر على شعبيتهم في الشارع النصراني، كونه من خارج الطبقة السياسية التقليدية، وليس في سجله ما يشابه السجلات السوداء للسياسيين اللبنانيين من الفساد والمحسوبيات، وغيرهم يرى في ذلك مخالفة دستورية واضحة لناحية أنه لا يجوز أن ينتخب موظف من موظفي الدرجة الأولى رئيسا للدولة إلا بعد مرور سنتين على خروجه من منصبه، وإلا فإن الأمر يحتاج لاستثناء دستوري كما حصل مع الرئيس السابق وقائد الجيش السابق ميشال سليمان عام 2008م، بينما انتخب جوزيف عون وهو على رأس قيادة الجيش، بل كان تم التجديد له منذ أشهر قليلة مضت، وطرف ثالث كان يصف قائد الجيش برجل أمريكا ويرى في انتخابه خطرا على البلد وعليهم كما كانوا يزعمون. والأهم من ذلك أن جوزيف عون لم يرشح نفسه ابتداء لهذا الأمر، إذ كيف يفعل وهو ما زال على رأس قيادة الجيش؟!
كل هذه العقبات التي كانت تضعها هذه الأطراف، اختفت فجأة من المشهد، فصار مقبولا عند من تحفظوا على اسمه في الشارع النصراني لسنتين، وتم تجاوز العقبة الدستورية بتكييف غريب يقول: إن انتخابه من العدد المطلوب سواء في الدورة الأولى من الانتخاب أو الدورة الثانية هو بحد ذاته تعديل دستوري. ومن كانوا يذمونه بالعلاقة مع أمريكا هم من رجحوا كفته في الدورة الثانية من الانتخاب، وزيادة في رسم المشهد الغريب وكون جوزيف عون كما أشرنا، لم يعلن نفسه مرشحا فاز بأغلبية مطلقة، وقف بعد دقائق من انتخابه ليلقي خطابه المعد مسبقاً الذي عرض فيه خطة عمله، بل ليكون المشهد أكثر هزلية، لوحظ أن القصر الجمهوري يتم تحضيره من الصباح الباكر لاستقبال الوافد الجديد، وهذان المشهدان الأخيرين يدلان دلالة واضحة على أن جلسة الانتخاب أمرٌ صوري، وأن الأمور معدة مسبقاً.
مما لا شك فيه أن المتغيرات السياسية في المنطقة بعد عملية طوفان الأقصى، وصولا لوقف حزب إيران اللبناني إطلاق النار مع كيان يهود في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024م، ذلك الاتفاق الذي اعتبر تتويجا لتقليص نفوذه بقوة السلاح على لبنان، ثم سقوط طاغية الشام في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024م وخروج نفوذ إيران وحزبها من سوريا، هذه المتغيرات فرضت نفسها على الوضع الداخلي اللبناني، وكانت باكورة ذلك التحرك الأمريكي الواضح في موضوع رئاسة الدولة، وهو ما صرح به حتى الكثير من نواب المجلس النيابي في لقاءات قبل جلسة الانتخاب، ومنها على سبيل المثال تصريح النائب ميشال معوض الذي رشح نفسه للرئاسة في جلسات سابقة: "المساعدة العربية والدولية أدت للوصول لهذه المرحلة.."، وتصريح النائبة بولا يعقوبيان بقولها: "مع أن اقتراعي خرق للدستور! سأصوت لجوزيف عون للوصول لـ٨٦ في الدورة الأولى، لأنه من خارج الأحزاب والقوى، وهناك ضغط خارجي كبير خضعت له القوى والأحزاب.."، ولعل أبرز هذه التصاريح وأوضحها تصريح النائب أسامة سعد "انتخاب جوزيف عون مخالفة دستورية، لن أخالف الدستور، ولن أسير مع المخالفين، لماذا حصل التوافق لما تدخل الأمريكي؟! ولماذا حصل التوافق بعد اتفاق إذعان ليس في مصلحة لبنان، في الحرب الأخيرة، التدخل الخارجي بحد ذاته مخالف للدستور، ما يحصل جزء من المسار الأمريكي للسير بمصالحها في المنطقة وتعزيز نفوذها، وتأمين ممرات الغاز والنفط..". عِلاوة على ما لوحظ من حركة السفيرة الأمريكية ليزا جونسون بين مكتب رئيس مجلس النواب ونائبه بعد وصولها لحضور الجلسة، الجلسة التي حضرها لفيف كبير من السفراء، في إشارة إلى أنهم أحيطوا علما بواقع هذه الجلسة، وأنها جلسة انتخاب لاسم معين، وليست كسابقاتها من الجلسات.
ولعل مختصر القول: إنه الإذعان للإرادة الأمريكية من غالبية الفرقاء، وتغيير المعادلات الداخلية بعد الاتفاقات المذلة مع يهود، ومع التغييرات في سوريا، برعاية تركيا الدائرة في فلك أمريكا، تُرجم كل ذلك سياسيا بإنهاء مرحلة معينة ودخول لبنان والمنطقة في مرحلة جديدة، كانت إحدى مؤشراتها انتخاب قائد الجيش جوزيف عون رئيسا للبنان. فحين قررت أمريكا السير بصياغات معينة في المنطقة حصل الإذعان لا التوافق، ولو كان فيه وبشكل فاضح ما يسمونه مخالفات دستورية، ورغم كل الخطابات والكلمات الجوفاء التي رددها ساسة لبنان لسنتين خلتا، بل لسنين خلت.
نعم، قد يرى الناظر ببصره أن الإرادة الأمريكية تفرض نفسها على الواقع في بلاد المسلمين عموما وعلى بلاد الشام خصوصا، لكن الناظر ببصيرته المدرك لمعية الله عز وجل، يرى الأحداث بمجملها منذ عملية طوفان الأقصى إلى سقوط طاغية الشام، رسخت في الأمة قدرتها وإمكانياتها كأمة في مقارعة التقدم العسكري بأسلحة بسيطة، وفي قدرتها على إزاحة الحكام إن هي حزمت أمرها.
إن حجم الغليان في هذه الأمة يولد طاقة عجيبة، مثلها كمثل القدر الذي تشتعل تحته النيران فيغلي فيتحول بخاراً، إن تركته بلا توجيه صحيح ذهب أدراج الرياح، وإن وضعت ما يضبط سيره أنتج طاقة تزيح الجبال، وهذا التوجيه الصحيح والقيادة الصحيحة لقدرات الأمة لا تمثله إلا الخلافة الراشدة التي يسعى لإقامتها، واصلا ليله بنهاره، حزب التحرير، الذي لا يرى كل ما يحصل إلا إزالة للعقبات من أمام دعوته، بعد أن صار الوعي العام على الإسلام واضحا وما بقي إلا أن يتحول لرأي عام، لتكون وراثة الأرض من الله عز وجل لعباده رغم استضعافهم ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾.
رأيك في الموضوع