عقد مسؤولون أمريكيون وروس يوم 18 شباط/فبراير المنصرم قمة في الرياض حول أوكرانيا، مستبعدين فيها كلاً من أوكرانيا صاحبة الشأن، بعدم توجيه الدعوة لرئيسها لحضور القمة، والاتحاد الأوروبي الطرف الأصيل في الحرب مقابل روسيا. في ظل تصريحات المسؤولين الأمريكيين لأوكرانيا بأن عليها تسليم نصف معادنها النادرة لأمريكا نظير مساعداتها، وللاتحاد الأوروبي بـ"أن الأوروبيين لن يشاركوا في محادثات السلام بشأن أوكرانيا"، بهذه الأعمال يلوح لأمريكا هدفان، الأول أن تخضع أوروبا لطلب ترامب منها في فترة رئاسته الأولى، برفع حصتها المالية للناتو إلى 4% من ميزانياتها بدلاً من 2%، وهذا يحقق لحكومة ترامب التجارية مكاسب مادية إضافية. والآخر وهو الأهم وهو استمالة روسيا إليهم، ووقوعها في فخ الإغراء بالسيطرة على أوروبا عسكرياً، بتصريح وزير الدفاع الأمريكي بيت هيغسيث "إن الولايات المتحدة لم تعد ضامنة للأمن في أوروبا". حينئذٍ تنشب نيران حرب واسعة يشتد أوارها، ويلحق الدمار بروسيا وأوروبا. إن أمريكا نجحت في مخططاتها بإشعال الحرب بين روسيا وأوروبا في أوكرانيا، بعيداً عن ديارها، لتفادي دخان نار الحرب ورمادها.
وإلحاق الأذى بالقدر المستطاع بروسيا وبأوروبا معاً، ستظل أمريكا بين الفينة والأخرى تتنقل بين الوقوف إلى جانب روسيا تارة، وإلى جانب أوروبا تارة، لإطالة أمد الحرب. يؤهلها في ذلك، عجز السياسة الروسية عن مجابهتها، وأخذ زمام المبادرة منها في السياسة الخارجية، وخضوع أوروبا لسياستها، فيما يختص بحصة مساهمتها المالية في الناتو، وقيادة أمريكا العسكرية لحلف الناتو، ووجود قواتها على الأراضي الأوروبية، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتأسيس حلف الناتو، وعدم مقدرتها التخلي عن مظلة الحماية العسكرية الأمريكية في وجه روسيا، وحصة مساهمتها المالية في الناتو. ولا يمكن الاعتقاد بالتخبط في السياسة الأمريكية، من الحزب الديمقراطي إلى الحزب الجمهوري، بتغير السياسة الأمريكية مرة تجاه روسيا وأخرى تجاه أوكرانيا.
هكذا يكون ترامب قد انتقل إلى خطوة ثانية في السياسة الأمريكية، على ما بدأه سلفه بايدن من إشعال الصدام بين روسيا وأوروبا، وإيذاء روسيا من خلال جرها لحرب استنزافية لسنوات ثلاث، أثرت على اقتصادها بالإنفاق على الحرب، وحرمانها من بيع الغاز لأوروبا، وعزلتها السياسية عن العالم. في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد الأمريكي، ويترنح أمام أزمة مالية ماحقة مقبلة مؤذنة بانهيار اقتصادها، لن ينفعها إرغام أوروبا على شراء الغاز منها، رغم ارتفاع كلفته عن الغاز الروسي، ولا خفض النفقات، وتقليل عجز الميزانية إلى النصف، وغيرها من الإجراءات التي يقوم بها ترامب.
إن شعور الضعف الذي اعترى أمريكا، على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والمجتمعية، ورصده السياسيون حول العالم، وحذر منه فريق من الساسة والأكاديميين الأمريكيين، دفع ساسة البيت الأبيض، منذ مطلع القرن الجديد، إلى التفكير بطريقة يظنون أنه بالإمكان تفادي خطورة الوضع الذي هم عليه، فسارعوا لإضعاف القوى الرئيسية المؤثرة في العالم والقريبة منهم. فبدأوا بروسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانفصال أوكرانيا عنه عام 1991م، بجعل أوكرانيا المتاخمة لموسكو رأس حربة لهم، من خلال دعمهم لمرشحي الرئاسة في أوكرانيا المعارضين لروسيا، من فيكتور يوشينكو زعيم الثورة البرتقالية عام 2004م، وبترو بوروشنكو عام 2014م وحتى فولوديمير زيلينسكي عام 2019م. بدعم أمريكا الضخم لأوكرانيا على مدار ثلاثين عاماً، والتمهيد لجعلها ضمن حلف الناتو، الأمر الذي جعل روسيا تعارض ذلك بشدة، وتطلب من أمريكا ضمانات أمنية بعدم توسيع الحلف وضم أوكرانيا إليه، الذي قوبل برفض أمريكي، في القمة التي جمعت بايدن وبوتين في جنيف بسويسرا في 16 حزيران/يونيو 2021م. وهكذا أشعلت أمريكا شرارة الحرب في 24 شباط/فبراير 2022م، لتحقق خطوتها الأولى في توريط روسيا، التي جعلت من نفسها وريثة للاتحاد السوفيتي في السياسة الدولية، وأوروبا المتفلتة من الهيمنة الأمريكية عليها.
تعتبر أوكرانيا جزءا من أوروبا الوسطى وفيرة الخيرات محل أطماع الدول الأوروبية القوية ومفتاح الحروب فيها على مر تاريخ أوروبا الدموي، وبلداً إسلامياً منذ الفتوحات العثمانية في الجوار الأوروبي، لوقوعها على الشاطئ الشمالي للبحر الأسود، وإسطنبول على الشاطئ الجنوبي منه، إلى جانب بلغاريا، ويوغسلافيا وألبانيا والمجر، وأفلاق "رومانيا"، وبغدان "مالدوفيا"، وبلوغ أسوار فينّا مرتين، بعد فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح في 29/05/1453م، وصيرورتها مدينة الإسلام "إسلامبول"، وعاصمة لدولة الخلافة منذ العام 1517م.
إن من يحرص على إطفاء نار الحروب عادة هم من يحملون مبدأ، وجهة نظر صحيحة عن الكون والإنسان والحياة، تنبثق عنها معالجات لحل جميع مشاكل الإنسان، الذين تحيا الأرض بظهورهم عليها، ويسعد معهم الناس، وليس الذين على دينهم فحسب. أما مسعّرو الحروب، للكسب من ورائها، فهم أصحاب المبادئ غير السوية الذين ملأوا الأرض فساداً وشقاءً ومرضاً وجوعاً، مقابل تحقيق رغباتهم ومصالحهم، فالفريق الأول هم من يحتاج العالم إليهم، ويرحب بظهورهم.
الفضاء يتسع لإقامة دولة الخلافة الراشدة، طاعة لله، ولسعادة المسلمين، وأهل الأرض جميعاً، وإنهاء مخاطر ويلات حروب النظام الرأسمالي، الذي لا يحسب للناس إلا ولا ذمة، والذي ينفخ في رماد الحرب لإشعالها، ويحافظ على اتقادها ودوامها.
رأيك في الموضوع