تتعامل أمريكا ترامب مع دول الاتحاد الأوروبي تعاملها مع دول العالم الثالث، فهي تريد منها أن تخضع لسياساتها الجديدة، التي عمادها تنفيذ الأوامر، فقد ولى عهد الركوب بالمجان كما قال ترامب في فترته الأولى، ويجب على الدول الأوروبية التي قبلت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية الدخول تحت المظلة الأمريكية، أن تدفع بدل حمايتها لسبعة عقود، فأمريكا صاغت القوانين الدولية والمنظمات والمؤسسات المالية والاقتصادية والعسكرية، بشكل يحفظ تفوقها على باقي العالم، بما فيها الدول الأوروبية، أما الآن فإنها تريد فرض هيمنتها بشكل يحفظ تفردها ولو أداها ذلك إلى معركة كسر عظم مع دول الاتحاد، وما الغطرسة التي أظهرها ترامب أمام زيلينسكي رئيس أوكرانيا إلا رسالة لدول أوروبا، وأن هذه اللغة هي التي ستعتمدها أمريكا مع العالم كله.
منذ نهايات الحرب العالمية الثانية وأمريكا هي سيدة الدنيا بلا منازع، فقد صاغت العالم بشكل يحفظ لها تفوقها العسكري والسياسي والاقتصادي، فقد صنعت الصندوق والبنك الدوليين للمحافظة على هيمنتها الاقتصادية، وكانت قبلها قد تعهدت باستبدال الدولار بالذهب، ولما وجدت أن غطرستها بدأت مقبولة دوليا، فكت الرابط الذي يربط بينهما وألغت تعهدها، وبعدها بسنتين تقريبا ربطت النفط بالدولار، حتى صار العالم معنيا بالدفاع عن دولارها وقوتها الاقتصادية. وعلى الصعيد العسكري أنشأت حلف الناتو فكان ظاهره التصدي لروسيا ومعسكرها الاشتراكي، وباطنه بقاء أوروبا تحت تسلطها العسكري بعد أن قبلت أوروبا لنفسها بمشروع مارشال، وتحت ما يسمى إعادة إعمار ما دمرته الحرب العالمية الثانية في أوروبا، قبلت الدخول تحت الوصاية الأمريكية.
وهكذا فقد أحكمت أمريكا سيطرتها الاقتصادية والعسكرية على أوروبا، حتى إذا جاءت بدايات الألفية الثالثة وتحديدا في أزمة الرهن العقاري، تبين أنها تحكم قبضتها على الاقتصاد العالمي برمته، ويكفي أن نعلم أن نظام التحويل المالي (سويفت)، الذي ترعاه أمريكا يكفل لها الإشراف على كل التحويلات المالية في العالم، وإذا أضفنا لذلك من زاوية أخرى حجم وعدد القواعد العسكرية في أوروبا أدركنا من أين تأتي هذه الهيمنة.
لا شك أن أمريكا ما زالت الدولة الأولى في العالم، وأن مناكفة دول الغرب لها لا ترقى أن تكون صراعا إلا من باب المجاز، فهي تمسك بكل الملفات الحساسة وليس بملف أوكرانيا، وملف الشرق الأوسط وقضية فلسطين فقط، إلا أن الملاحظ الآن أنها لم تعد تهتم لعملائها وحلفائها، فهي منذ أن تصدرت مركز الدولة الأولى في العالم إبان الحرب العالمية الثانية، وهي تدير الملفات وتحقق سياساتها تحت الطاولة، ودون أن تبين خططها في إنجاز أعمالها وتفتعل الانقلابات وتغير الأنظمة، دون أن يشعر أحد بمشاريعها أو خططها، إلا أن عنجهيتها وغطرستها ظهرتا عندما أمسكت إدارة بوش الأب ثم الابن الحكم فاحتلت العراق وأفغانستان وضربت الصومال، ونستطيع القول إنه منذ بداية التسعينات من القرن المنصرم وأمريكا لم تعد تخفي وجهها الحقيقي الذي استطاع الآباء المؤسسون والسياسيون الكبار، الاختباء تحته لفترة طويلة من الزمن.
إن الصراع بين أمريكا ترامب وبين أوروبا لم يعد خافيا، فترامب مصمم على معاملة حكام أوروبا كما يعامل حكام الشرق الأوسط، وأوروبا بما لها من تاريخ استعماري طويل تدرك أن إرضاء أمريكا ربما أصبح غاية لا تدرك، وأنه لم يبق أمامها إلا التداعي للتوحد، وهذا الاختبار في أوكرانيا ربما لن يكون آخر الاختبارات.
أما على الصعيد السياسي فإن أمريكا يبدو أنها تريد فصل الملف الروسي عن الملف الصيني، وهذا ما كان يوصي به كيسنجر وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأسبق، فإن أمريكا تعتبر أن عدوها الأول هو الصين وليس روسيا، وإن كانت تعتبر روسيا أيضا عدوا وهي تدرك أن روسيا لا أطماع لها خارج إقليمها، وأوكرانيا جزء منه، لذلك فإنها ستحل مشكلة أوكرانيا على حساب أوروبا، والأوروبيون يدركون ذلك جيدا، وها هم يتداعون للوحدة، والوقوف إلى جانب أوكرانيا، والراجح أن حل مشكلة أوكرانيا سيكون على حساب أوروبا وأوكرانيا، وإرضاء روسيا، في مقابل تفرد أمريكا بالصين، وبهذا تكون أمريكا قد حققت نجاحاً في فصل الصين عن روسيا، وأيضا تكون قد أبقت روسيا بعبعا يبقي أوروبا تحت رحمتها.
إن طبيعة النظام الرأسمالي المصلحي لا يقبل القسمة على اثنين، فضلا عن كونهم ثلاثة أو أربعة، ولهذا فإن معركة كسر العظم هي الحالة الطبيعية التي أفرزت الحربين العالميتين الأولى والثانية، فهو لا يقيم وزنا لقيم أو أخلاق، وإنما إلهه المصلحة، وأمريكا الآن ترى نفسها أنها تستطيع فرض هيمنتها، وتملي على العالم كله ما تريد، وإن هذه الحالة هي ما يعجّل في زوالها وظهور مبدأ جديد، وهو الإسلام، فهو وحده الذي يملك منظومة من التشريعات والقيم التي لا تنظر للعالم على أنه مزرعة أو قطيع من المواشي، وإنما ترعى مصالح الجميع وتنشر الخير في كل الدنيا، وإن النظام السياسي في الإسلام وهو الخلافة، هو وحده القادر على نشر العدل؛ ذلك أنه من خالق البشر سبحانه وتعالى.
رأيك في الموضوع