في أواخر 2022 أعلنت بريطانيا على لسان وزير خارجيتها السابق جيمس كليفرلي عما وصفته بـ"استراتيجيات طويلة الأجل لتطوير العلاقات مع القارة الأفريقية"، ومنذ ذلك التاريخ تواترت زياراتها نحو أفريقيا خاصة خلال الأشهر الأخيرة حيث ركزت جهودها الدبلوماسية على كل من ليبيا وتونس والجزائر. وقد أعلن وزير خارجيتها دافيد لامي على هامش زيارته لتونس عن تخصيص تمويلات من لندن بـ5 ملايين جنيه إسترليني لبرامج تعليمية وتأهيل المهاجرين غير النظاميين الموجودين في تونس ومنح خفر السواحل التونسي طائرات مسيّرة ومناظير ليلية للرؤية من أجل التصدي لعمليات الهجرة غير النظامية والاتفاق على تنظيم الدورة الثالثة لمجلس الشراكة التونسية البريطانية في أيار/مايو 2025 في تونس، في الفترة نفسها التي ستجري فيها الولايات المتحدة مناوراتها العسكرية أفريكوم 2025 على أرض تونس بمشاركة جيوش المنطقة.
وتعرف دول ليبيا وتونس والجزائر وجود عشرات آلاف المهاجرين غير النظاميين الذين دفعتهم الأزمات في دولهم إلى منطقة شمال أفريقيا التي تستخدم كنقطة عبور نحو السواحل الأوروبية، وهناك تخمينات بارتفاع هذا العدد سنة 2025 مقارنة بالعام الفائت نظراً إلى وضع المهاجرين. وكان رئيس تونس قيس سعيد قد وقع أواسط 2023 على مذكرة "شراكة استراتيجية وشاملة" مع الاتحاد الأوروبي في التنمية والطاقات المتجددة ومكافحة الهجرة غير النظامية مقابل حزمة من المساعدات.
وبموازاة هذه الزيارة التي أثارت الجدل والتساؤلات في تونس، كانت لنائب رئيس الأركان البريطاني هارفي سميث تحركات في ليبيا المجاورة (04/02/2025) التقى خلالها الفاعلين هناك وأهمهم رئيس حكومة "الوحدة الوطنية" المؤقتة عبد الحميد الدبيبة وقائد "الجيش الوطني الليبي" اللواء المتقاعد خليفة حفتر ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي.
ولم تمض أيام على زيارة الوفد العسكري البريطاني لليبيا حتى أجرى وفد من القوة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) برئاسة نائب قائد أفريكوم، الفريق جو برينان مباحثات مع مسؤولين عسكريين ليبيين خلال جولة مكوكية ما بين بنغازي وطرابلس في 10/02/2025 وتركزت المباحثات على فكرة تشكيل "قوة عسكرية أمنية مشتركة" مكونة من قوات تتبع شرق ليبيا وغربها مع حلول آذار/مارس الجاري.
كما تم في الفترة نفسها (13/02/2025) لقاء رئيس مجلس العموم البريطاني ليندسي هويل بالسفير الجزائري في لندن نور الدين يزيد حيث أكد هويل على أهمية الجزائر كشريك سياسي واقتصادي للمملكة المتحدة، مشيدا بدورها في تحقيق السلام والاستقرار في منطقة شمال أفريقيا ومنطقة جنوب الصحراء الكبرى (موريتانيا، مالي، النيجر، تشاد، بوركينا فاسو، السودان).
وتأتي تحركات بريطانيا في ظل أزمتها الاقتصادية المتفاقمة نتيجة انسحابها من الاتحاد الأوروبي وأزمة الطاقة، فهي تدرك أن استعادة نفوذها في شمال أفريقيا قد يمنحها فرصاً لتعزيز مكانتها الاقتصادية وتعويض الخسائر الناتجة عن خروجها من الاتحاد الأوروبي وتداعيات أزمة الطاقة.
كما تأتي الاندفاعة العسكرية والدبلوماسية البريطانية نحو شمال أفريقيا في سياق إقليمي يتسم بانحسار النفوذ الفرنسي حيث اضطرت باريس بسبب الضغط الأمريكي المتواصل إلى سحب قواتها من خمس دول أفريقية هي النيجر ومالي وبوركينا فاسو وتشاد والسنغال، وتخطط لسحب المزيد، ووسط خلافات حادة في علاقاتها مع الجزائر، ووسط تصاعد النفوذ الروسي، إذ باتت لموسكو قوات في كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى وغينيا الاستوائية وليبيا سنة 2019 عندما استعانت أمريكا بروسيا وتركيا لخلط الأوراق على الأوروبيين.
ولا بد هنا من التذكير بمدى تقلص نفوذ بريطانيا في تونس وليبيا خلال العقد الماضي، لكنها بلا شك تسيطر على الوسط السياسي في تونس، وما زالت تحتفظ بدور خفي في ليبيا بعد 2011، فبعد تدخلها البارز في ليبيا عام 2011، تراجعت أمام نفوذ الولايات المتحدة وفرنسا، لكنها احتفظت بدور خفي من خلال دعمها بعض تيارات الإسلام السياسي وتدخلها في الملفات الاقتصادية، لا سيما ملف المصرف المركزي.
إن بريطانيا تسعى لاستعادة نفوذها في تونس وليبيا لمواجهة التحديات الإقليمية والدولية، فقد كان لها حضور قوي في ليبيا، حيث لعبت دوراً تاريخيا بارزاً في ليبيا وتونس، فهي من دعمت السنوسي ضد الإيطاليين وساهمت في تأسيس الجيش الليبي خلال فترة المملكة الليبية، وأوصلت القذافي للحكم بانقلابه على السنوسي سنة 1969 بعد تدريبه تسعة أشهر في سلاح الجو الملكي البريطاني وسلاح المشاة في هايث، كينت، وساهمت مع فرنسا للإطاحة به سنة 2011. كما أنها هي من نصبت بورقيبة على حكم تونس على إثر اتفاق بين الفرنسي مونداس فرانس وضابط الاستخبارات البريطانية سيسيل حوراني الذي لازم بورقيبة 11 سنة في قصر قرطاج (بين سنة 1956 و1967) وبقي نفوذها في تونس إلى 25 تموز/يوليو 2021 ليحل محله النفوذ الفرنسي. لذلك فإن بريطانيا رغم ما أصابها من ضعف فإنها ما زالت تحاول وتناور من أجل استعادة نفوذها التاريخي في كل من تونس وليبيا.
وهكذا في ظل غياب الإسلام عن واقع الحياة أصبح شمال أفريقيا مسرحا للصراعات الدولية بين فرنسا وبريطانيا وأمريكا، ولن يوقف هذا النزيف إلا أن تتوحد المنطقة في دولة ذات قوة وشوكة وهيبة تستند في قرارها إلى سيادة الشرع وسلطان الأمة دون غيرهما.
بقلم: د. الأسعد العجيلي
رأيك في الموضوع