لا يكاد يذكر رمضان إلا وتقفز إلى الأذهان مباشرة قصص الفتوحات وأسماء القادة والأمراء وتتسارع صفحات العز حتى لتكاد تخطئ العد من كثرتها. غير أن هذه الانتصارات العظيمة بتنا اليوم لا نعرفها إلا في صفحات التاريخ، وأقربها إلينا زمنا يفصله عنا دهر من الأسى، فلماذا؟ ماذا ينقصنا؟
بالطبع لا يجد الكثير من مشايخ اليوم إلا جوابا واحدا على هذا السؤال: لأننا بعيدون عن الله، ينقصنا التقوى والإيمان التي كانت عندهم. نحن لا نستحق النصر. وينطلق هؤلاء بسرد لائحة المعاصي التي نعايشها في أفراد أمتنا اليوم.
ولا يماري مسلم بضرورة الإيمان في أي جيش وأي نصر، ولكن هل هناك عامل آخر؟
إن الأمجاد الرمضانية لا يبارح أسماءها أسماء قادتها العظام، فلن تستطيع التحدث عن معركة الزلاقة مثلا، دون أن تذكر بطولات القائد يوسف بن تاشفين، ولا يكتمل كلامك عن انتصار عين جالوت الرمضاني مثلا من غير أن تسهب الكلام عن تضحيات السلطان قطز... وهكذا.
نعم إن رمضان هو شهر شحذ الإيمان وشهر البركة من الله، غير أنه ومن دون قائد تجتمع حوله الجيوش، ومن دون خليفة يعلن تكبيرة الجهاد، ويستقطب طاقات الأمة، فستبقى أمتنا متفرقة عاجزة تتلقى الضربات مهما كثر فيها الأبطال ومهما شحذ رمضان ما فيها من إيمان.
أضف إلى هذا كله وجود طواغيت تابعين لقوى الكفر الدولية، يمنعون أي صحوة وأي تجمع قوى ويجهضون أي تحرك للتغيير. لأجل هذا لا نرى في الأمة من أعمال اليوم إلا الأعمال الفردية والمقاومة المفرقة التي لا تحرر أرضا ولا تزيل عدوا.
لذلك فإن اتهام الأمة أنها لا تريد النصر والتحرير بسبب معاصيها، هو إجحاف في حق أمتنا خير أمة أخرجت للناس. فمن دون إمام، من سيفتح الحدود؟ من سيجمع الصفوف؟ من سيعلن النفير؟ بقيادة من ستحكم البلاد بعد تحريرها؟ غريب كيف يغفل هؤلاء عن هذا الأصل المكين.
الأمراء هم من يصنع الانتصارات للأمة ومعها، وكذلك هم من يصنع هزائمها بقراراتهم المذلة أو التابعة لأعدائهم. ولعلك توافقني أنه عندما يتسنى لأمتنا قيادة حتى وإن كانت منحرفة عن الجادة، تجد مباشرة صفوف المسلمين لا تلبث أن تتعلق بها وتبرر لها، وقد تجد الانتصارات المرحلية حليفتها ما إن تعلن القتال ضد يهود.
إن أمتنا عطشى لقائد تبذل معه أغلى التضحيات، وما دامت هذه السلطات العميلة في بلادنا تجثم على صدر أمتنا وتقطع فيها أنفاس التغيير فسيبقى يمر علينا الرمضان تلو الرمضان، ولا نعد فيه إلا المجازر والخسائر والشهداء..
بين رمضانهم ورمضاننا:
ولتقريب الفكرة فسنعرض عددا من الأمجاد التي وقعت في رمضان في ظل الخلافة وأمراء الإسلام، مع المقابلة بأحداث وقعت في اليوم نفسه ولكن في ظل الحكم الجبري الذي نحياه اليوم ليبدو البون الشاسع والمصاب الجلل.
في 1 رمضان سنة 20هـ دخل الصحابي عمرو بن العاص مصر الكنانة فاتحا ومحولا دارها إلى ولاية إسلامية في عهد الفاروق عمر. وفي 1 رمضان سنة 1425هـ الموافق 2004م، ارتكب يهود مجزرة في قطاع غزة راح ضحيتها 110 شهيدا ثلثهم من الأطفال في عملية "أيام الندم".
في 5 رمضان عام 666هـ زحف الظاهر بيبرس بجيش كبير نحو أمارة أنطاكية الواقعة تحت سيطرة الصليبيين مدة خمسة وسبعين عاماً، ففرض عليها الحصار إلى أن استسلم الصليبيون في داخلها في مثل هذا اليوم. وفي 5 رمضان 1367هـ الموافق 11 تموز/يوليو 1948م، وحدة كوماندوز صهيونية بقيادة موشيه ديان ترتكب مجزرة في مدينة اللد بفلسطين، حيث اقتحمت المدينة وقت المساء تحت وابل من القذائف المدفعية، واحتمى الناس من الهجوم في مسجد دهمش، وقتل في الهجوم 426 فلسطينياً.
في 8 رمضان المبارك لعام 164هـ الموافق 684م انتصر المسلمون بقيادة صقر قريش عبد الرحمن الداخل على جيش شارلمان. وفي 8 رمضان لعام 1342هـ الموافق 1924م، المسلمون يصومون شهر رمضان دون خليفة لأول مرة.
في 15 رمضان 138هـ الموافق 756م عبر القائد عبد الرحمن الداخل البحر إلى الأندلس. وفي 15 رمضان المُبارك في فجر يوم الجمعة لعام 1414هـ، الموافق 25/2/1994م، شاهد المسلمون بالصوت والصورة مجزرة المسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل، شارك فيها جيش يهود وجموع مستوطني كريات أربع وكانت بتنفيذ الضابط باروخ جولدشتاين وذهب ضحيتها 90 شهيداً وثلاثة أضعاف هذا العدد من الجرحى، كانوا يؤدون صلاة الفجر.
هل وضحت الصورة؟! هل كان لمصر أن تفتح لو لم يكن هناك الفاروق عمر والفاتح عمرو بن العاص وخلافة نافذة؟ هل كان المسلمون سيحققون ذلك الفتح في 1 رمضان؟ أم كان رمضان سيمر بهم كما يمر بنا أو قريبا منه؟
لا عجب أن ينتصر المسلمون مع عبد الرحمن الداخل على الصليبيين في أنطاكية في 5 رمضان، لكن العجب ألا تحدث مجزرة اللد في فلسطين في اليوم عينه ولا ظهر للمسلمين ولا سند.
لأجل ذلك كان الواجب الذي يطوق أعناق المسلمين اليوم، والنصر الذي ستمر من بعده الأحداث المضيئة ويغلق به كتاب الهزائم المخزية بإذن الله، هو أن يهبّ أبناء الأمة إلى العمل الجاد المجد لوضع أيديهم المتوضئة بأيدي الدعاة المخلصين الذين نذروا أنفسهم لهدف واحد أساس؛ هو إسقاط هذه الأنظمة الخانعة، وبيعة صلاح دين جديد، بيعة غافقي جديد، وأن ينبذوا كل دعوة للقعود أو الانتظار، أو الخنوع أو التطبيع مع الطواغيت وأسيادهم.
وعلى أقوياء الأمة وفرسان جيوشها أن يعلموا أن سخط الله عليهم كبير إن خذلوا أمتهم ولم يبايعوا معها هذا المشروع الراشد الكفيل بإنهاء عهد التبعية والذل إلى غير رجعة بإذن الله.
اللهم نسألك بيعة رشد وتقى، تعيد بها إلينا رمضان النصر والفتوحات، وتنهي بها سني الذل الكالحات. يا رب نسألك نورا في عقول شبابنا، يعصمهم من الحيرة والانخداع، ويرشدهم طريق الهدى والسداد، اللهم لا تحرمنا صيام الرمضان الذي يعلن هلاله أمير المؤمنين، ويقود جيوشه إلى النصر المبين، في ظل خلافة الراشدين، اللهم آمين، والحمد لله رب العالمين.
بقلم: الأستاذ أحمد الصوفي (أبو نزار الشامي)
رأيك في الموضوع