قبل أيام، وبتاريخ 21/10/2024م عقد مؤتمر في إحدى المناطق القريبة من المستوطنات المحاذية لقطاع غزة، وذلك بدعوة من حزب الليكود، ووزراء ونواب ونشطاء من أحزاب يمينية أخرى في كيان يهود، كان عنوانه "الاستعداد لإعادة استيطان غزة"، وقد حضر المؤتمر وزراء بارزون في حكومة نتنياهو مثل بن غفير وسموتريتش وغيرهما.
خلال المؤتمر صدرت دعوات ومقولات، منها الدعوة إلى إعادة النشاط الاستيطاني في "كل شبر" من غزة، والوعود كذلك بنكبات أخرى لأهل فلسطين، مع التأكيد على أنهم، أي اليهود، أصحاب الأرض "التي أعطاهم الله إياها"، ومع النفي لوجود "شعب اسمه الشعب الفلسطيني"، وقد كان من ضمن المؤتمر الدعوة إلى "إصلاح الأخطاء" من مثل فك الارتباط عن غزة عام 2005 واتفاقية أوسلو عام 1993 من خلال "العودة إلى الديار"، وعدم ارتكاب هذه الأخطاء مرة أخرى، إضافة إلى تصريحات ومواقف أخرى على الشاكلة ذاتها.
لقد كان من الممكن المرور عن خبر هذا المؤتمر دون توقف أو اعتبار، لولا أن مثل هذا المؤتمر هو بالفعل تعبير صريح وحقيقي عن السياسة التي باتت تجري على أرض الواقع، ولولا أنه اختزال لعقلية القوم التي تعبر بدقة عن طبيعتهم اللئيمة الخبيثة، فما قيل فيه ليس فقط كلاماً يقال خلف الأبواب التي لم تعد مغلقة، بل هو ممارسات وخطط ينفذونها بالدماء.
أما أنه اختزال يعبر عن عقلية يهود وطبيعتهم وطباعهم، فذلك أن هؤلاء الذين يعرفون باليمين، أو اليمين المتطرف، باتوا هم الجمهور الواسع من الكيان، وليست الحكومات التي يسمونها بـ"المتطرفة" إلا تعبيرا عن حجم هؤلاء، وامتدادا تمثيليا لهم، بل ليس ثمة فرق بينهم وبين غيرهم من بقية الفئات سوى أنهم الأكثر وضوحا وتعبيرا عن حجم التوحش، والأكثر صراحة لما يقوم به يهود من مخططات خبيثة وحرب إجرامية، وهذه الصراحة منبعها الغرور والعنجهية والغطرسة التي صاروا إليها، خصوصا مع ما يقابلها من تواطؤ واستخذاء وخذلان من الأنظمة العربية المحيطة.
فالواقع الذي بات كيان يهود يعمل على صنعه، وممارساته التي تجري ميدانيا، إنما تسير بعقلية هؤلاء، وما يجري من حرب شرسة يشنها الكيان على أهل فلسطين منذ عام، بل منذ عشرات الأعوام يشير إلى أن هؤلاء باتوا يصرحون بالقول، عن النهج الذي كان يسير عليه كيانهم بالفعل، وتطبقه حكوماتهم، وهو السعي إلى إفراغ الأرض المباركة من أهلها، وليس غزة وحدها، مثال ذلك محاولاتهم المباشرة التي سعوا إليها لتهجير الناس في القطاع، وما يخططون له من إفراغ للشمال والكلام عن جعله منطقة عسكرية أو استيطانية، وبطريقة غير مباشرة كذلك ما يجري في الضفة الغربية، حيث نشر الاستيطان وصناعة الظروف الطاردة لإخراج أهلها منها، وإيجاد البيئة التي تجعل العيش صعبا أو مستحيلا، ولولا صمود أهل فلسطين وصلابتهم وإيمانهم لتم لهؤلاء جزء كبير مما أرادوا.
إن مشروع يهود من أول يوم هو "إحلالي استئصالي"، ويقصد به أنهم يريدون إحلال أنفسهم محل أهل فلسطين في كل شيء، وبالتالي فهم يرون أن بقاء أهل فلسطين هو نقيض لوجودهم ومشروعهم، بل وخيالاتهم التوراتية التي تقتضي إزالة المسجد الأقصى ليحل محله هيكلهم المزعوم.
ومن هنا، فإن "الحكاية" التي تروجها الأنظمة العميلة عن حل لقضية فلسطين مع يهود المجرمين منذ عشرات السنين بالتسويات السياسية، فإنها عدا عن كونها خيانة وتفريطا، فهي كذلك تتجاهل الواقع الحقيقي للكيان وأفعاله وأهدافه التي يسعى لفرضها على الأرض فعليا، وهي تهدر الوقت ويكذبها الواقع.
فالأحداث التي تجري على الأرض لا تسير بما يسمى بالقوانين الدولية على زيفها، والدول الغربية الكبرى الداعمة لكيان يهود وعلى رأسها أمريكا، هي عدوة للإسلام والمسلمين، وما كيان يهود إلا رأس حربتها، بل حتى مشاريع الدول الكبرى التي لا يزال يهلل لها الحكام ويسيرون في ركابها كحل الدولتين، فإنها، عدا عن أن الكيان يقوضها بسياساته وممارساته وحروبه، فإنها كذلك، ليست نصا مقدسا، بل هي مشاريع قابلة للتغير تبعا للمصالح المتغيرة، وطالما أن تلك الدول تشارك كيان يهود عداء المسلمين والمكر ضدهم.
إن ما صدر عن المؤتمر المذكور، وما يقوم به هذا الكيان من إجرام وسياسات على أرض الواقع هو المعبر عن حقيقته، وعن مستقبله في المنطقة في حال استمرار بقائه، وعما يخطط له هو من مستقبل للمنطقة وأهلها، وخصوصا فلسطين.
إن هؤلاء القوم المجرمين قد عرّفوا أنفسهم للناس، وكشفوا عن حالهم بلسانهم، إلا لمن طمس الله على قلبه، بأنهم ليسوا أهلا للمواثيق ولا للعهود، وليست عهودهم ومواثيقهم إلا مرحلة يقفزون بها للوصول إلى أهدافهم الخبيثة، حتى إذا جاءت الظروف المناسبة نقضوها، وهم الذين نقضوا عهودهم مع الله عز وجل وقتلوا أنبياءه، ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ﴾ حتى لعنهم الله تعالى بذلك ﴿فبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ وهم لا يزالون على العقلية نفسها بنقض المواثيق، واللؤم والإجرام.
لذلك فإن كل تفكير، غير التفكير الجاد والحقيقي بإزالة وجود هذا الكيان برمته، إنما هو تفكير مضلل مضر، حيث إنه لا يزال مستمرا بكل طاقته، ومنذ يومه الأول، في الاستيطان والتهجير والقتل، والاستحواذ على كل الأرض بالضم، وفوق ذلك الهيمنة على الجوار وجعله ضعيفا ممزقا، والطمع في أراضيه كما باتوا هم أنفسهم يصرحون، وهم يرون أن أمنهم يقوم على الاستيلاء على كل شبر، وفي الوقت نفسه لا يرون ضمانة لأمنهم إلا بالقوة والتسلح، وما جرائمهم في الحرب القائمة إلا لإيجاد الرعب والردع وإثبات أنهم الأقوى، بينما لا يلجأ الحكام العملاء بالمقابل إلا لمزيد من الانبطاح والجبن والخور، والإضعاف لبلدانهم ما لا يقوم به إلا كل خائن.
وبكل الأحوال، فإن الحقيقة أن يهود وهم يكشفون طبيعة أنفسهم، قد بصقوا في وجوه كل من يسعى إلى مهادنتهم، وتسويات التطبيع معهم، وما يقومون به لن يجلب لكيانهم الأمن يوما، وهو لا يخيف أبناء أمة الإسلام، وخصوصا أهل فلسطين الذين خبروا جبنهم، ولن يزيل عنهم ما ضرب عليهم من الذلة، وقرره كتاب الله، ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ﴾ ولن يؤخر وعد الله فيهم إذا جاء ﴿إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾.
بقلم: الأستاذ يوسف أبو زر
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع