يقال إن المصائب تأتي دفعة واحدة، فقد اجتمعت على أهل غزة مصيبة الحرب والإبادة التي يشنها كيان يهود المجرم، والمجاعة والمرض جراء الحصار، ومنع إدخال المواد الغذائية والأدوية، ومع دخول فصل الشتاء وما يصاحبه من منخفضات جوية وأمطار وبرد وصقيع، فقد اكتمل مثلث الموت، خاصة وأن فصل الشتاء يأتي في ظل بنية تحتية مدمرة، ومخيمات نزوح تفتقد لأدنى مقومات الحياة، سواء من جهة التنظيم، أو التجهيزات اللازمة للإيواء، أو القدرة على تلبية متطلبات واحتياجات الناس، كما أن الخيم التي تؤوي الناس باتت مهترئة، وغير صالحة للإيواء بعد مرور خمسة عشر شهرا، وكثيرا ما اضطر أصحابها للتنقل بها من مكان لآخر بسبب أعمال القتل والإجرام والتهديد بإخلاء المناطق التي ينفذها جيش الاحتلال، فما عادت تلك الخيم تقي ساكنيها من البرد القارس فضلا أن تمنعهم من الغرق بسبب مياه الأمطار الغزيرة.
ومما يزيد من مأساة الناس في قطاع غزة، أن عداد الضحايا لا تحركه فقط جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها جيش يهود، بل أضيفت لها مصيبة الجوع والشتاء، فحسب الإحصائيات الرسمية المعلنة في غزة، فإن 110 ألف خيمة باتت مهترئة وغير صالحة للإيواء، وقد اقتلعت الرياح العاتية التي اجتاحت قطاع غزة في الأيام القليلة الماضية الكثير منها، وتركت أصحابها بلا مأوى، ونقلت العديد من وسائل الإعلام ومنصات التواصل مشاهد مؤلمة لغرق خيم النازحين في مناطق مختلفة من القطاع، فيما أعلن الدفاع المدني عن عجزه عن توفير أماكن بديلة للمتضررين، حتى إن بعضهم اضطروا للمبيت في العراء، وقد أدت موجة الصقيع والبرد القارس في الأسبوع الماضي إلى موت 7 أشخاص من بينهم 6 أطفال كان آخرهم التوأمان علي وجمعة البطران اللذان لم يتجاوزا الشهر الواحد من عمرهما بحسب ما أعلنه المكتب الإعلامي الحكومي بغزة الاثنين 30 كانون الأول/ديسمبر 2024، كما أعلن عن موت 44 إنساناً نتيجة سوء التغذية ونقص الغذاء والمجاعة التي تضرب القطاع وخاصة في الشمال، كما أن 3500 طفل معرضون للموت جراء سوء التغذية ونقص الغذاء.
هذا بالإضافة إلى آلاف النساء الحوامل المهددات بالخطر بسبب نقص الرعاية اللازمة، ومئات الآلاف من المسنين وأصحاب الأمراض المزمنة، وعشرات آلاف الجرحى، ومرضى السرطان وهم بحاجة للعلاج في الخارج بسبب نقص الإمكانيات، أضف إلى ذلك كله انتشار الأمراض المعدية، وعدم توفر الأدوية اللازمة بسبب إغلاق المعابر ومنع كيان يهود إدخالها، وفوق ذلك كله وما يجعل المشهد مأساويا أكثر استهداف جيش الاحتلال المجرم للمستشفيات والمراكز الصحية والكوادر الطبية.
هذا جانب من جوانب المعاناة والكارثة الإنسانية التي يكابدها أهل غزة، فيما واقع الحال يفوق كل تصور ويعجز عنه الوصف، وتقع الكارثة وتحدث المأساة، ويتلقاها أهل غزة بقلوب يملؤها الإيمان والتسليم لأمر الله الرحمن الرحيم، راجين منه سبحانه أن يبشرهم بالخير من عنده كما في قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾، ويبقى السؤال الأكبر على لسان كل طفل وكل أم وزوجة شهيد، وكل شاب وشيخ في غزة، أين أبناء أمتنا الإسلامية؟! ألسنا إخوتهم في الدين؟! إلى متى عن قتلنا تصمتون وأنتم ترون وتسمعون؟! أم لكم أعين لا تبصرون بها، وآذان لا تسمعون بها؟! وعقول لا تفقهون بها؟! أم طابت لكم الدنيا وقذف الله في قلوبكم الوهن، وحب الدنيا الفانية وكراهية الآخرة الباقية؟!
أيها المسلمون: كما أن المصائب تأتي تباعا فإن الخير بإذن الله يأتي سراعا، وأنتم قادرون على قلب حال الأرض المباركة إلى أحسن حال إنْ ملكتم إرادتكم وجعلتم أمر ربكم على رأس أولوياتكم، فنحن منكم وأنتم منا، ألسنا إخوة بموجب قوله تعالى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾؟ ولنا حق عليكم في قول رسول الله ﷺ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ شَيْءٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»؟ ولنا واجب عليكم في قوله تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾؟ فكيف يطيب لكم عيش والموت ينهشنا من كل جانب؟! كيف تتدثرون وبالدفء تنعمون وأطفالنا من البرد يموتون؟! كيف تهنؤون بطعام وكسرة الخبز نطعمها لأطفالنا باتت دونها أرواحنا؟!
إن إغاثة الملهوف، ونصرة المظلوم واجبة، وإنها من خصال الإسلام العظيم، رضي الله عن أم المؤمنين خديجة حين أتاها رسول الله ﷺ ليلة جاءه جبريل عليه السلام، فواسته بقولها لن يضيعك الله فأنت تقري الضيف وتغيث الملهوف وتنصر المظلوم، ولما أقام الله الدين ونصر نبيه ﷺ والمؤمنين، وصارت لنا دولة تؤوينا وتجمعنا، كان خيرنا يصل إلى كل إنسان بغض النظر عن دينه ولونه وجنسه، فما بالنا اليوم لا ينصر بعضنا بعضا ولا نتراحم فيما بيننا؟! رحم الله الفاروق عمر لما كانت المجاعة، أرسل إلى عمرو بن العاص وهو واليه على مصر يومئذ، أرسل له يقول: "أأجوع أنا ومن معي وتشبع أنت ومن معك؟! وا غوثاه وا غوثاه"، فأرسل له عمرو قافلة أولها في المدينة وآخرها في مصر، أغاث بها المسلمين في المدينة.
صحيح أن الظروف مأساوية والمعاناة شديدة، والأوضاع الإنسانية كارثية، وأنتم أيها المسلمون قادرون على أن ترفعوا هذا الظلم وتخففوا المعاناة، ولكننا ندرك أيضا أن فرض مثل هذه الحال الإنسانية الصعبة هي جزء من التضليل وإشغال الناس عن التفكير في القضية الأساسية والسبب الرئيس للمشكلة والحل الجذري لها، وهي وجود هذا الكيان المجرم على أرض فلسطين، كما أن فرض مثل هذا الواقع يجعل الناس أكثر قابلية للحلول التصفوية والاستسلام بحجة رفع الحرج عن الناس ووقف القتل والإجرام، وليس بالإمكان أفضل مما كان، وهذه ليست دعوة لاستمرار القتل والإبقاء على عذابات الناس، ولكنها دعوة للبحث في إنهاء المرض من أساسه، والشفاء منه شفاء تاما، وإلا ستبقى كل محاولات المساعدة والإغاثة المقدمة لأهل فلسطين مجرد إبر تسكين. فعلى الأمة أن تتحرك في اتجاه الحل الجذري، وتضطلع بمسؤوليتها الشرعية تجاه فلسطين وأهلها، وتعمل على إزالة هذا الكيان المجرم، وتحرير الأرض المباركة من ظلمه وإجرامه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، وإن الله سائلكم عن نصرة إخوانكم، وعن قبلتكم الأولى فجهزوا للسؤال جوابا، وللإجابة صوابا، فلن تغني عنكم مظاهراتكم، وإن كانت لو أنها توجهت إلى القصور وثكنات العسكر، ولم تبرح الميدان حتى يستجيب الحكام ويتحرك الجند، ولن تغني عنكم قوافل المساعدات، وإن كانت لو أنها أرتال دبابات، وأسراب مقاتلات، وبوارج حرب.
فأهل غزة جياع ولكن الحرية تشبعهم أكثر، وأهل غزة عرايا ولكن لباس العزة خير كسوة، وأهل غزة لا يجدون ما يقيهم البرد والصقيع حتى قتلهم، ولكن أمير المؤمنين على رأس جيش يحرر المسجد الأقصى خير لهم من الدنيا وما فيها.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع