إذا أردنا أن نتكلم عن السياسة الخارجية لأية دولة، فيجب أولا أن نفهم الأساس الذي تقوم عليه هذه السياسة وأهدافها وارتباطاتها. وكل ما يصدر منها وما يتعلق بها يبنى على هذه الأمور، وإلا سار المرء متقلبا مع تقلب الأحداث حيران تتخطفه التناقضات، وصارت نظرته سطحية تبعا لظاهر الأحداث دون أن يربطها بهذه الأسس، ولن يفهم السياسة ويعطي رأيا صائبا.
وما دام حديثنا عن إيران، فهي دولة تسيّر سياستها الخارجية حسب النظام الدولي القائم، فتنتسب للمنظمات الدولية والإقليمية القائمة على أساس النظام الرأسمالي مثل عضويتها في الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي وبريكس وشنغهاي، وكافة علاقاتها الدولية غير قائمة على أساس الإسلام. وهدفها تحقيق المصالح الوطنية والقومية. وتستخدم الناحية المذهبية الشيعية لتحقيق هذه المصالح، ولا تهتم بهذه الناحية إذا تعارضت مع تلك المصالح. ودليل ذلك علاقاتها بأذربيجان التي ينتسب أكثرية أهلها للمذهب الشيعي، فهي لم تنصرهم عام 1989 لتعارض مصالحها مع روسيا عندما ثاروا عليها، ولم تنصرهم ضد الأرمن الذين احتلوا 20% من أذربيجان عام 1993، ولم تنصرهم عندما بدأوا باستعادة أراضيهم منذ عام 2020.
وأعلنت عن سيرها في فلك أمريكا بتصريح مؤسسها الخميني بأن إيران مستعدة أن تتعاون مع أمريكا بشرط ألا تتدخل في شؤونها الداخلية، وكشف الرئيس الإيراني السابق بني صدر ذلك. ونشرت المخابرات الأمريكية رسالة الخميني للرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر المتعلقة بهذا الخصوص. وأعلن الرئيس الإيراني الأسبق أحمد نجاد، ومحمد أبطحي نائب الرئيس الإيراني الأسبق خاتمي عن تعاون إيران مع أمريكا في احتلال أفغانستان والعراق وتأمين الاستقرار لاحتلالها، وثبت ذلك في سوريا وهي تنصر بشار أسد عميل أمريكا.
وأعلنت على لسان مرشدها خامنئي سياستها المتعلقة بفلسطين؛ أنها مع إجراء استفتاء بين سكانها المسلمين والنصارى واليهود لتقرير نظام الحكم للتعايش معا. وبذلك أعلنت اعترافها بوجود يهود المغتصبين لفلسطين وحرصها على بقائهم فيها.
ولهذا لا تقوم بأي عمل في المنطقة إلا بإيعازات من أمريكا، وعلى هذا الأساس يجب فهم سياسة إيران وإلا فإن المرء سيضلل نفسه وغيره. ويجب تتبع هذه السياسة في الماضي بأمثلة عديدة حتى يتأكد من ذلك وأنها لم تتغير.
فعندما أرادت الرد على مقتل قادة من حرسها الثوري بدمشق أعلن وزير خارجيتها السابق عبد اللهيان أنهم يجرون اتصالات مع الأمريكان في عُمان لدراسة كيفية ردها. وجاء الرد بإطلاق 332 صاروخا، ويظهر أن هناك اتفاقا على إسقاطها قبل وصولها لكيان يهود، لأنها لحفظ ماء الوجه وليست جادة.
وعندما قتل رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية في عاصمتها، أعلنت أنها سترد، وطلبت أمريكا منها الانتظار حتى تسفر المبادرة الأمريكية المصرية القطرية عن نتيجة لوقف إطلاق النار في غزة وعليها ألا تجهض هذه المفاوضات! فأعلنت إيران أنها ستنتظر وأعلنت عن الصبر التكتيكي والصبر الاستراتيجي!
وكل ذلك شجع كيان يهود على مهاجمة حزبها اللبناني وقتل زعيمه والعديد من قادته في الصف الأول، بجانب قتله وجرحه للآلاف من أتباعه بواسطة وسائل الاتصالات وبالهجمات بالطائرات.
وأعلن الكيان عزمه القيام باجتياح بري للبنان، وأمريكا ترفض ذلك، وتمادى في غطرسته قائلا على لسان رئيس وزرائه نتنياهو بأنه سيشكل شرق أوسط جديداً. وهذا تجاوز لما تريده أمريكا من كيان يهود بأن يبقى أداتها في المنطقة لتعزيز نفوذها ولمنع تحرر الأمة ونهضتها وإقامة خلافتها.
وقد سقطت سمعة إيران إلى الحضيض، وبدأ الشك لدى أتباعها في قدرتها وجديتها، وهذا من شأنه أن يحد من نفوذها الإقليمي ويحرض المعارضة بداخلها على التمرد والعمل على إسقاط نظامها. خاصة وأن الأوروبيين وبالأخص بريطانيا لا يتوقفون عن العمل بداخلها. فعندئذ قامت بإطلاق 200 صاروخ، وأعلنت اكتفاءها بذلك لتؤكد عدم جديتها. فأرادت أمريكا المحافظة على سمعة النظام الإيراني والحد من غطرسة نتنياهو وقطعانه، فغرّهم مواصلتهم المجازر بغزة بدون رادع على مدى عام، وتفاخرهم بقتل أطفالها ونسائها ورجالها العزل وتدمير بيوتهم ومدارسهم ومستشفياتهم فوق رؤوسهم، ولم يؤثر ذلك في قلوب حكام المسلمين الذين قست قلوبهم فهي كالحجارة بل أشد قسوة، فأصبحوا عديمي الإحساس، ولم تتحرك الأمة بعدُ لإسقاطهم ولا جيوشها، والانطلاق لنصرة إخوانهم في فلسطين وتحريرها. وغرّهم دعم أمريكا المطلق لهم مهما ارتكبوا من مجازر، وقد دللتهم إلى أبعد الحدود رغم إفشالهم لكل جهودها السياسية لوقف إطلاق النار في غزة ولتطبيق حل الدولتين.
فاتجه الكيان يضرب لبنان ويهدد باجتياحه، فعندئذ قامت إيران بهذه الضربة، ولم تعترض أمريكا إلا 12 صاروخا في رسالة منها لهم أن يتوقفوا عن عدم طاعتها. وأعلن كيان يهود أن بعض منشآته قد تضررت من هذه الصواريخ وأنه سيرد. وتعمل أمريكا على منعه من أن يتعرض للمنشآت النووية والنفطية الإيرانية. فإذا دمر هذه المنشآت سيصبح النظام الإيراني في مأزق شديد فعليه أن يرد بالمثل وإلا سيعرضه للخطر إقليميا وداخليا. وبذلك تتعرض أمريكا لخسارة كبيرة في إيران، ما يشجع الأوروبيين على استعادة نفوذهم هناك. وهي حاليا لا تستطيع أن تتخذ قرارا حاسما للجم كيان يهود بسبب الانتخابات الرئاسية، فلا يريد الديمقراطيون خسارتها، والجمهوريون يزاودون عليهم بدعمهم غير المتناهي لهذا الكيان وعدوانه.
فأمريكا لم تستطع أن توجد معادلة بين دعمها لكيان يهود وبين جعله يدخل بيت الطاعة. فعرّضت نفسها للانتقاد ووصفها بالضعف والعجز، وزعزعة الثقة بقدرتها على إدارة مشاكل العالم وحلها.
والأوروبيون عاجزون عن فعل أي شيء وهم يلهثون وراء أمريكا، بجانب عدم تخليهم عن تأييد كيان يهود لكونه صنيعتهم. والمؤسسات الغربية التي يسمونها مؤسسات دولية من محكمة عدل ومحكمة جنايات وأمم متحدة، لم تعزم على إلزام الكيان بشيء، ما أوقعهم في مأزق وتناقض. ولو أرادت أمريكا وأوروبا إلزامه بقراراتهم وضغطوا عليه بشكل جاد لخضع، لأنهم شريان حياته. فأرادوا أن يلتزم طواعية، ما جعله يتمادى في جرائمه.
وبدأت إيران تبحث عن كيفية لوقف إطلاق النار في لبنان، لأنها ليست لديها إرادة لخوض حرب مع كيان يهود كما خاضتها مع أهل سوريا، وليست لديها أهداف في تحرير فلسطين، فجاء وزير خارجيتها عراقجي إلى بيروت ودمشق ليبحث ذلك.
لقد سقط القناع عن إيران كما سقطت ورقة التوت عن أردوغان وباقي الحكام، وبدأت الأمة تتلهف لقيادة سياسية مخلصة تعيد لها عزتها وسؤددها، وما تلك إلا التي تعمل على إقامة خلافتها الراشدة على منهاج النبوة.
رأيك في الموضوع