تحت عنوان "غارات الطائرات بدون طيار تثير التوترات بين تبون وغويتا"، توقفت مجلة جون أفريك الفرنسية عند تنفيذ الجيش المالي، منذ 25 آب/أغسطس المنصرم، سلسلة من الغارات بطائرات بدون طيار استهدفت محيط بلدة تين زاوتين، وهي بلدة حدودية تمتد بين مالي والجزائر. وأشارت المجلة الأسبوعية إلى أن المواجهة التي دارت بين متمردي الإطار الاستراتيجي الدائم للدفاع عن شعب أزواد ضد الجيش النظامي المالي ومساعديه من مجموعة فاغنر - التي تم دمجها الآن في كيان أكبر يسمى فيلق أفريقيا - أدت إلى خسائر فادحة للقوات المسلحة المالية، وكانت الهزيمة مريرة بشكل خاص بالنسبة لمقاتلي مجموعة فاغنر. واعتبرت جون أفريك أنه من المتوقع أن يكون لرد الجيش المالي عواقب تتجاوز شمال مالي. فقد أثارت هذه الخطوة ردّ فعل قوياً من جارتها الجزائر التي لها حدود مشتركة مع مالي بطول 1329 كيلومتراً، وتعتبر وضع هذه المناطق الصحراوية الشاسعة قضية أمن قومي.
بينما تزعم باماكو أنها قتلت "حوالي عشرين مسلحاً" واستهدفت إرهابيين، يؤكد الانفصاليون الطوارق، بالإضافة إلى العديد من المصادر المحلية والإنسانية، أن القتلى كانوا في الغالب من المدنيين، بما في ذلك حوالي عشرة أطفال. وهي رواية تدعمها الجزائر التي قامت على جانبها من الحدود بالعناية بالعديد من المصابين جراء هذا الهجوم. (القدس العربي 03/09/2024)
ارتفعت منذ مطلع هذا العام، حدة التوتر بين الجزائر ومالي التي كانت تعرف بالسودان الفرنسي زمن الاستعمار وبمملكة الذهب زمن الدولة الإسلامية، وبدل أن تتضافر جهود الشعوب الإسلامية في تحقيق مسار التحرر النهائي من ربقة الاستعمار، نجد أن الخضوع للمستعمر هو سمة حكام المنطقة ممّن يمنعون وحدة الأمة ويُقدّمون أنفسهم على أنهم قادة تحرر وطني. فقد أعلن المجلس العسكري الموالي لأمريكا في مالي يوم 25/01/2024 "إنهاء" اتفاق السلام الموقع عام 2015 في الجزائر مع الجماعات الانفصالية الشمالية، بعد أشهر من الأعمال العدائية بين المسلحين والجيش، ولم يقف الأمر عند انسحاب مالي من "اتفاقية الجزائر للسلام" بل كانت هناك خطوات أخرى قامت بها أمريكا لعزل الجزائر عن محيطها الإقليمي، على غرار انقلاب النيجر ومن قبله بوركينا فاسو، فضلا عن قرار المجالس العسكرية في كل من بوركينا فاسو ومالي والنيجر بالانسحاب الفوري من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، وذلك بهدف كنس النفوذ الأوروبي عموما والفرنسي على وجه الخصوص.
وهكذا يُرى أن عدوة الإسلام والمسلمين الأولى أمريكا، المصرة على اقتحام شمال أفريقيا، استطاعت بأدوات مثل روسيا وتركيا اللّتين تتقنان خدمة المصالح الأمريكية في الخارج من أجل الحصول على بعض الغنائم، استطاعت أن تحاوط أطراف الجزائر بغية تشتيت جهودها وعزلها عن محيطها الإقليمي تزامنا مع تحركات حفتر العسكرية ومحاولاته السيطرة على مدينة غدامس الاستراتيجية في مثلث الحدود الليبية الجزائرية التونسية، ليصبح فناؤها الخلفي وعمقها الاستراتيجي مصدر إزعاج مباشر لها ولمصالحها في المنطقة، فلا تكفي حالة الجفاء مع تونس وحالة التوتر مع المغرب (في علاقة بملف الصحراء) وفقدان التأثير في الملف الليبي وعدم استقرار الأوضاع في تشاد وحالة الحرب الطاحنة في السودان، ليصبح الساحل الأفريقي مصدر توتر أمني وعسكري، تترجمه حالة من الحرب غير المعلنة مع مالي، قد تتطور إلى ما لا يحمد عقباه.
الجديد في هذه المعادلة المرسومة للمنطقة في كواليس الإدارة الأمريكية وما أوجدته من صداع في رأس الجزائر، هو تنامي الدور المسند إلى روسيا وتركيا على حد سواء، وهو ما لم يعد خافيا على الجزائر نفسها ومن ورائها الحليف التقليدي المتقهقر بريطانيا. فقد أوردت جريدة العرب اللندنية بتاريخ 07/02/2024 ما يلي: "وفي أول اختبار جدي وجدت الجزائر نفسها بلا أصدقاء في محيطها الإقليمي، بما في ذلك الروس والأتراك الذين استفادوا من علاقاتهم معها لتثبيت نفوذهم في مالي وليبيا، وباتت في عزلة أكبر بعد استعداء المغرب وإسبانيا والبرود مع فرنسا والتخلي عن تونس في أزمتها". وأضافت الجريدة نفسها بالقول: "تقع مجموعة فاغنر الروسية ومرتزقة آخرون تابعون لقوى إقليمية على غرار تركيا، في صلب رسالة تبون، ما يزعج القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في المشهد الليبي، ويدفع علاقات الجزائر مع موسكو وأنقرة إلى المراجعة، خاصة مع دور الطرفين الجلي في الأزمة القائمة بين الجزائر والقيادة العسكرية الحاكمة في مالي. ومنذ ظهور الدّعم الروسي والتركي للمجلس العسكري الحاكم في مالي، على حساب الدور التقليدي للجزائر، بات الانزعاج الجزائري واضحا...".
وفيما قالت صحيفة لوبينيون الفرنسية، إن الجيش الجزائري اعترض مسيرة تركية الصنع من طراز TB2 قرب حدود البلاد الجنوبية مع مالي، فقد جاء في تقارير صحافية جزائرية، استناداً إلى "معطيات أمنية"، أن هجوم الجيش المالي تم بمسيرات تركية الصنع، وبدعم فني من فاغنر، التي بات انتشارها في المنطقة مصدر قلق كبير للجزائر، التي ترى أنها "تتعرض لمؤامرة تقودها دول بعيدة عن المنطقة". (الشرق الأوسط، 30/08/2024)
بل إن الحديث عن وجود "مؤامرة" دولية تستهدف الجزائر صار عنوان حملة الانتخابات الرئاسية، وذلك منذ بدايتها في 15 من الشهر الماضي طمعا في رفع نسب المشاركة. فجاء التحذير منها على لسان الرئيس المترشح عبد المجيد تبون، وجميع قادة الأحزاب المؤيدين لترشحه. كما ذكرها المرشحان الآخران، الإسلامي عبد العالي حساني، واليساري يوسف أوشيش، هذا فضلا عن الانتقادات التي وجهها مندوب الجزائر في الأمم المتحدة عمار بن جامع، لدور مجموعة فاغنر الروسية في عمليات الجيش المالي شمال البلاد على الحدود مع الجزائر، ودعوته إلى محاسبة "الجهات المتجاوزة للقانون الدولي الإنساني".
ختاما، فإن عسكرة المنطقة، بتحركات حفتر نحو غدامس، المتزامنة مع تحركات الجيش المالي على حدود الجزائر في إقليم أزواد لاستهداف قبائل الطوارق الموالية لها، فضلا عن تنامي الدور الروسي التركي في المنطقة وخاصة في ليبيا ومالي، مقابل التشكي من روسيا على أعتاب الأمم المتحدة ومجلس أمنها وقوانينها الانتقائية الجائرة، إن هذا كلّه لا يخدم إلا مصالح أمريكا التي تعمل على إيجاد الحجج الكفيلة بخضوع قصر المرادية لأجندتها من باب عرض خدمات التعاون العسكري، وهو ما ترجمته الزيارات المتكررة لقائد قوات أفريكوم مايكل لانغلي. فهل يستجير العقلاء من الرمضاء بالنار؟! وهل يُطلب العون من أمريكا التي تشارك كيان يهود جرائمه في غزة أم من الأمة وأهل القوة فيها؟! قال تعالى: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾.
رأيك في الموضوع