تزايدت حدة التوترات على ما بات يُعرف بالجبهة الشمالية لفلسطين، وهي الجبهة المحاذية لجنوب لبنان، بين يهود من طرف، وحزب إيران اللبناني من طرف آخر. حدة التوترات هذه دفعت بالمنسق الأمريكي هوكشتاين للتحرك سريعاً تجاه المنطقة، في محاولة لمنع توسع المعركة، هذا التوسع الذي لا تريده أمريكا، ولا إيران الدائرة في فلكها، ولا حزبها في لبنان! ولكن يهود، لا سيما المتطرفين مثل بن غفير وسموتريتش، يميلون لتوسيع نطاق المعركة لتشمل لبنان، ويكاد نتنياهو يكون قريباً من هذه الأجواء، لما فيه من إبعاد لشبح سقوط حكومته، الذي هو بيد المتطرفين، وتعرضه للمساءلة بشأن السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 وغيره.
بينما يجد توسيع المعركة معارضةً واضحةً من أطراف داخل كيان يهود، من مثل المستقيلين من حكومة الحرب، بيني غانتس وأيزنكوت، المقربين من أمريكا، ومن المعارضة أمثال يائير لابيد، المقرب من أمريكا كذلك، والذي عرض على نتنياهو تحالفاً يحميه من المساءلة إذا وافق على وقف إطلاق النار في غزة والسير بصفقة الأسرى، لكن يبدو أن نتنياهو لم يستطع أن يقنع المتطرفين في حكومته، إضافةً للضغط في الشارع عند يهود الذي يُلح على الإسراع في إنجاز صفقة الأسرى، وكذلك التصريحات الرسمية للمتحدث باسم جيش كيان يهود، هغاري، بعدم إمكانية القضاء على حماس، ما يشي بوضع متأزم بين الجيش والإدارة السياسية، وسبحانه القائل: ﴿بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ﴾.
لكن اللافت في ازدياد حدة هذا التوتر، هي تلك التصريحات التي أطلقها هوكشتاين منذ بداية زيارته الأخيرة، بعد أن دارت محادثات غير مباشرة مع حزب إيران اللبناني، عبر رئيس البرلمان نبيه بري الذي قام بدور الوسيط! والتي أشار فيها هوكشتاين إلى أمرين؛ أولهما أنه لم يلمس نية للتصعيد عند لبنان، ولا يعني لبنان هنا إلا حزب إيران اللبناني، وأنه فهم من الحزب عبر الوسيط، أن الكرة في ملعب يهود؛ وثانيهما ربطه انتهاء العمليات على الحدود الشمالية وحتى في البحر الأحمر، بتوقف الأعمال العسكرية في غزة! وكأن هوكشتاين وإداراته لا يجدون غضاضةً بما سماه الحزب والفصائل بوحدة الساحات، ولعله يشبه ما كانت تسير عليه أمريكا إبان عملية السلام في التسعينات من وحدة المسارات، للضغط على يهود!
هذا غير التصريحات التي في السياق نفسه للبيت الأبيض والخارجية الأمريكية من مثل "أن وقف إطلاق النار في غزة سيمثل اختراقاً من أجل الوصول إلى حل على الحدود اللبنانية"، و"الدبلوماسية هي الطريق الوحيد للحل"، و"أنه لا يمكن القضاء على حماس بالوسائل العسكرية وحدها"، وبروز مسألة تقييد الأسلحة لكيان يهود من أمريكا، التي فضحها نتنياهو في فيديو أزعج إدارة بايدن، لما له من تأثير سلبي على حملة بايدن الانتخابية! وليس حرصاً على دماء المسلمين، أو ضناً بالسلاح على ربيبتهم يهود! لا سيما لقبتهم الحديدية التي تحمي شمال فلسطين.
وهنا يمكن الإشارة إلى تطور آخر، فمع زيارة هوكشتاين، وهذه التصريحات الكثيرة، والحركة الدبلوماسية الحثيثة، عمد حزب إيران اللبناني إلى إبراز قدراته، من مثل الرصد الجوي لمواقع حساسة جداً ليهود؛ صواريخ الدفاع الجوي، وامتلاكه لمسيرات عجزت تجهيزات يهود عن كشفها، وتعمده توجيه إصابات مباشرة لجنود يهود، وكأن الرسالة واضحة لكيان يهود - وليس منها أي توتر عند الإدارة الأمريكية -: نحن منسجمون مع رغبة أمريكا وإيران بعدم توسيع رقعة الحرب، ولن نبادر بذلك! لكن إن بادر الكيان بهذا، فالإمكانيات التقنية والصاروخية والبشرية كثيرةٌ جداً!
ونقصد بالإشارة لهذا الجانب، أن نُذر الحرب من جانب إيران وحزبها في لبنان ليست موجودة، وأن التصعيد مدروسٌ بهذا القدر وهو منضبطٌ جداً بتوجيهات إيران الدائرة في فلك أمريكا! وأن المخاوف الأمريكية الحقيقية هي من اندفاع نتنياهو لمنطقة حماية نفسه، مستغلاً الظرف الانتخابي لبايدن، عبر إدخال المنطقة في أتون حرب واسعة، بعد فشله الذريع في غزة ثم رفح، فكان لا بد أن يفهم نتنياهو والمتطرفون معه أن هذه الاندفاعة ستكون كارثيةً عليهم، ولن تكون جبهة غزة فقط، بل لبنان واليمن والبحر الأحمر والعراق.
والواقع أيضاً، أن يهود لم ينتهوا من جبهة غزة ورفح، برغم محاولاتهم الأخيرة بالإعلان عن قرب انتهاء الهجوم على رفح، لكن الواقع يشير إلى أن المجاهدين - أعانهم الله وربط على قلوبهم - ما زالوا يكبدونهم الويلات حتى هذه اللحظة، ولا يمكن بهذه الحال فتح جبهة أخرى.
وفتح الحرب مع جنوب لبنان بأكثر مما هي عليه، سيكون نذير توسعة للحرب، لا تريده أمريكا، ولا أتباعها، ولا عملاؤها الفزعون على كراسيهم، ولهذا عادت أمريكا لحشد سفنها وبوارجها واستدعائها للمنطقة، ليس للمشاركة، ولكن رسالة تخويف لمنع توسعة النزاع، لا سيما ليهود.
ثم إن قدرات حزب إيران اللبناني تفوق لا شك قدرات حماس أضعافاً مضاعفةً، ونحن نرى كيف فعلت حماس بيهود في مساحة 360كم2، فكيف الأمر بحزب يمتلك مقدرات دولة؟!
ومما لا شك فيه أن اندلاع حرب واسعة، ضاغطٌ كبير على لبنان المتردي اقتصادياً كما هو معلوم، وسيضع الحزب في موضع حرج، وضاغطٌ كبيرٌ على مصالح أمريكا الغازية والنفطية في شرق المتوسط، ومشروعها التجاري في وجه الصين، وفوق ذلك ضاغطٌ أساسيٌّ على خط التجارة العالمي من البحر الأحمر الذي سيشتعل بشكل أكبر، ما يضر بشكل أساسي بمصالح أوروبا التجارية وخطوط تجارتها الدولية التي بدأت وستزداد.
لذلك نقول: إنه برغم ارتفاع حدة التوترات، وكأن التصعيد سيبقى ضمن دائرة ضربةٌ بضربة، فإذا تمادى يهود، خاصةً في استهداف قيادات الحزب، سيعمد الحزب لمزيد من الإيلام لكيان يهود عبارة عن ضربات صاروخية أكثر كثافة، خاصةً لتجمعات يهود العسكرية، حيث يُلاحظ تجنب الحزب أهدافاً (مدنية) مأهولة!
إن التعامل مع كيان يهود، لا يكون بسلام أو تطبيع أو ترسيم حدود، فكل ذلك اعترافٌ بالغاصب المحتل، بل التعامل معه يكون بالقتال وتحرير أراضي المسلمين، ولو أدرك من يقاتل يهود ذلك، لكانت الفرصة السانحة يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 هي اللحظة المناسبة لتدخل هذه القوى؛ الفصائلية أو العسكرية المتمثلة بالجيوش، وإعادة فلسطين بلداً غير محتل!
لكن حكمة الله عز وجل - التي لا ندركها إلا بنص - هي فوق كل فهم وتصور مهما علا، وإن تحقق النصر من الله عز وجل مشروط ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾، ونصره يكون بنبذ كل الوطنيات والقوميات والتقسيمات والرايات القائمة، والالتزام بالحكم الشرعي والمبادرة لقتال المحتل، دونما حسابات إقليمية ودولية، بل بحسابات شرعية فقط، دون خشية ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾، ولكن وكأنه لا سبيل حقيقيّاً موصلاً لهذا والمسلمون بلا رأس؛ إمام حاكم خليفة، قال عنه رسول الله ﷺ: «إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ»!
رأيك في الموضوع