شهدت العلاقات الصينية الأمريكية خلال فترة رئاسة ترامب الأولى ما بين 2018-2022 توترا ملحوظا، ظهر على أشكال مختلفة منها إصرار ترامب على تسمية فايروس كوفيد-19 بأنه فايروس صيني متهما الصين أنها وراء انتشار الفايروس، ومنها زيادة التوتر في مضيق تايوان الذي يفصل الصين عن تايوان ويمتد إلى حوالي 110 كم، وكذلك فرض ضرائب عالية على صادرات الصين للولايات المتحدة. ولعل أهم توتر بين البلدين هو ما ورد على لسان مسؤولين صينيين بأن أمريكا تريد أن تجر الصين إلى حرب باردة لا تحبذها الصين. وقد كان رئيس الصين شي صرح، كما أوردته وكالة رويترز في 15/11/2022، بأن عقلية الحرب الباردة يجب أن تنتهي وأن لا ينجر العالم إلى حرب باردة مطلقا. والحقيقة هي أن أمريكا بعد أن فقدت الاتحاد السوفيتي كشريك يساعدها على بسط النفوذ على مناطق العالم، بدأت تفقد أهم سبب لإبقاء أوروبا تحت مظلتها. ولذلك بدأت تبحث عن بديل آخر يمكنها من استمرار الهيمنة خاصة على ألد أصدقائها من أوروبا.
ولما تولى ترامب رئاسة أمريكا الولاية الأولى سنة 2018 كانت أهم أولوياته الدولية هي العمل على جلب الصين لتكون لاعبا دوليا تستخدمه لاستمرار بسط نفوذها على العالم وبالأخص الحيلولة دون خروج أوروبا من نطاق هيمنتها. وكانت أوروبا قد خطت خطوات كبيرة باتجاه الابتعاد عن هيمنة أمريكا، والتي كانت تحث الخطى باتجاه استكمال وحدتها من خلال دستور موحد وقوة أمن أوروبية، والابتعاد عن الناتو.
وقد رفضت الصين بشكل قاطع الانخراط بمغامرة مع الولايات المتحدة. وكانت قد رأت بأم عينها ما حصل للاتحاد السوفيتي من قبل والذي انهار دون أن يحقق أي مكسب من مشاركة أمريكا لعبة الحرب الباردة.
ولا يستبعد أن أحد أسباب إبعاد ترامب عن الحكم بعد رئاسته الأولى هو عدم مقدرته على جلب الصين إلى حلبة الصراع الدولي على شكل حرب باردة. وكان رئيس الصين قد عبر عن الخط العريض للسياسة الصينية، كما أوردته وكالة رويترز، والذي يتمثل بالتقدم في مجالات التكنولوجيا والتجارة العالمية بعيدا عن الصراعات السياسية والعسكرية خاصة في إقليم آسيا-الأطلسي والعلاقات الدولية.
وخلال فترة رئاسة بايدن اتجهت أمريكا إلى روسيا وزجت بها في معركة طويلة الأجل مع أوكرانيا لأسباب مختلفة لعل أهمها تأكيد هيمنة أمريكا على أوروبا وتقوية حلف الناتو وعدم تمكين أوروبا من الخروج على الناتو، الذي وصفه ماكرون رئيس فرنسا بأنه ينتظر الموت في غرفة الإنعاش المركز.
والآن وقد عاد ترامب إلى رئاسة أمريكا، فمن المرجح أن يعود مرة أخرى ليعمل على جلب الصين إلى الصراع في حرب باردة تأخذ أبعادا أكثر من الأبعاد التجارية. وقد أدركت الصين بمعرفتها السابقة عن سياسة ترامب وتوجهاته، أنه سيحاول مرة أخرى فرض حرب باردة بين أمريكا والصين. وليس هناك ما يدل على أن الصين ستستجيب هذه المرة لمحاولة ترامب جلبها لحرب باردة.
لذلك فإنه من المرجح أن العقوبات التي فرضتها الصين على شركات أمريكية عسكرية، ما هي إلا خطوات استباقية، تؤكد من خلالها أن موطن الصراع بين أمريكا والصين هو تجاري صرف، ولا علاقة لذلك بالصراع على النفوذ الدولي. من هنا جاءت عقوبات الصين على شركات سلاح أمريكية مرتبطة بأسباب تتعلق بالتوترات الإقليمية بين البلدين، وتحديداً حول قضية تايوان. وذلك بالتأكيد يصرف النظر عن الوضع الدولي إلى الوضع الإقليمي وهو ما تسعى الصين للحفاظ عليه إقليميا فحسب.
وتعتبر الصين تايوان جزءاً لا يتجزأ من أراضيها، وتعارض أي شكل من أشكال الدعم العسكري أو السياسي لها من أي دولة أخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة. وبالتالي، فإن مبيعات الأسلحة الأمريكية لتايوان تعتبر انتهاكاً للسيادة الصينية في محيطها الإقليمي. إلا أن توتر العلاقة بين الصين والولايات المتحدة يبقى محدودا في الإقليم الآسيوي المتوسطي ولا يتعداه إلى النفوذ العالمي. وتستخدم كل دولة من الدولتين أدوات مختلفة للتأثير على سلوك الدولة الأخرى، والعقوبات الاقتصادية هي إحدى هذه الأدوات. وما العقوبات الصينية الأخيرة على الشركات الأمريكية إلا رد فعل على عقوبات فرضتها أمريكا على شركات صينية، ورفع الضرائب على الصادرات الصينية. وتسعى الصين من خلال فرض العقوبات هذه إلى توجيه رسالة واضحة لأمريكا مفادها أن أي تدخل في الشؤون الداخلية الصينية سيواجه رد فعل حازم.
والحاصل أن فرض العقوبات المتبادل بين الدولتين هو جزء من التفاعلات المعقدة التي سوف تستخدمها أمريكا إما إلى ضغط حقيقي على الصين يؤدي في النهاية إلى تراجعها عن موقعها المتقدم عالميا، وإما إلى اتفاق بين الدولتين تكون له تداعيات واسعة النطاق على النظام الدولي، على شكل حرب باردة تزيد من مقدرة أمريكا على الحفاظ على مصالحها وهيمنتها على أكبر منافسيها الحقيقيين في أوروبا.
رأيك في الموضوع