من المتوقع أن تتركز السياسة الاقتصادية لأمريكا في عهد ترامب على قضايا استراتيجية مهمة تتعلق بهيمنة أمريكا ومكانتها الدولية، وأهمها الضغط على أعضاء الناتو للمساهمة بشكل أكبر في ميزانية الدفاع لحلف الناتو والابتعاد عن التفكير في بناء قوة أمن أوروبية، وزيادة الضغط على الصين للحد من توسعها التجاري والاقتصادي للمحافظة على مركز أمريكا وهيمنتها على التجارة العالمية، والمحافظة على الدولار كاحتياطي رئيسي لدى البنوك المركزية في العالم، والتصدي لمحاولة بعض الدول لاستخدام العملات المحلية بدلا من الدولار في المعاملات البينية. وهذه السياسات الثلاث الرئيسية تقع ضمن أولويات السياسة الأمريكية العامة، ودور الرئيس سواء أكان ترامب أو بايدن هو تحقيق هذه السياسات والحفاظ على مركز أمريكا في هذه المجالات.
أما ما يتوقع من ترامب عمله إزاء هذه السياسات، فيمكن إجماله فيما يلي:
أولا: المحافظة على قوة ودور الناتو:
لقد انتقد ترامب سابقاً أعضاء الناتو لعدم تلبية هدف الإنفاق الدفاعي للحلف الذي يبلغ 2% من الناتج المحلي الإجمالي، والذي يرى أنه يضع عبئاً غير متناسب على أمريكا. وكان قد ضغط على الدول الأوروبية لزيادة ميزانياتها الدفاعية وهدد بتقليص الالتزامات العسكرية الأمريكية إذا لم تمتثل. وذلك إضافة إلى الضغط المستمر لتتخلى أوروبا عن فكرة إنشاء جيش أوروبي تستغني به عن حلف الناتو، والذي دعت إليه المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل في خطابها الشهير عام 2018 حين قالت: "علينا أن نكون قادرين على الدفاع عن أنفسنا بشكل أكبر". وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أبرز المؤيدين لفكرة إنشاء جيش أوروبي مستقل.
ولا شك أن ترامب الآن سيكون أقدر على الضغط على أوروبا بعد أكثر من سنتين من حرب ضروس على حدودها بين روسيا وأوكرانيا، وقد أدركت أوروبا أن أحد أهم أهداف الحرب هي جعلها تستسلم للأمر الواقع بأن حلف الناتو مهم جدا، وبدونه قد تتعرض لحروب لا تقوى عليها منفردة ضد روسيا، ومن أجل تحقيق سياسته، فإنه من المتوقع أن يعمل على محاور عدة أهمها:
1- مطالبات مباشرة بزيادة المساهمات الدفاعية من الدول الأوروبية، خاصة ألمانيا وفرنسا، التي كانت هدفاً متكرراً لانتقاداته.
2- استخدام النفوذ الاقتصادي، بما في ذلك تهديدات التجارة أو الرسوم الجمركية، لدفع دول الناتو لزيادة ميزانياتها الدفاعية.
3- عزل دبلوماسي لإحراج الدول التي لا تلتزم بالهدف.
ثانيا: الحد من تزايد نفوذ الصين التجاري:
لدى ترامب تاريخ في شن حروب تجارية مع الصين، حيث يركز على معالجة ما يراه ممارسات تجارية غير عادلة، وسرقة الملكية الفكرية، والعجز التجاري المتزايد بين أمريكا والصين. وبالنظر إلى سياسته "أمريكا أولاً"، فمن المتوقع أن يستمر ترامب في اتخاذ موقف صارم تجاه الصين، بما في ذلك:
1- الرسوم الجمركية والحواجز التجارية: فقد فرض ترامب في السابق رسوماً جمركية على مئات المليارات من الدولارات من السلع الصينية، ومن المحتمل أن يواصل أو يوسع هذه السياسة، خاصة إذا كان يرى أنها وسيلة فعالة لتقليص العجز التجاري بين أمريكا والصين.
2- فصل سلاسل التوريد: فقد يدفع ترامب إلى مزيد من فصل سلاسل التوريد الأمريكية والصينية والتوجه نحو أوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية، سعياً لتقليص اعتماد أمريكا على التصنيع الصيني. إضافة إلى إيجاد حوافز تجارية واقتصادية لتشجيع إنشاء شركات إنتاجية جديدة في أمريكا وإعادة الشركات التي نقلت أعمالها إلى خارجها لتعود لتمارس عملها فيها.
3- زيادة العقوبات: من الممكن أن يفرض ترامب المزيد من العقوبات على الشركات الصينية، خاصة في التكنولوجيا والدفاع، حيث ترى أمريكا أن هذه القطاعات تشكل تهديدا لأمنها القومي.
4- معالجة الملكية الفكرية: قد يدفع ترامب الصين لتقديم تنازلات إضافية بشأن سرقة الملكية الفكرية ونقل التكنولوجيا القسري.
5- زيادة حدة الأزمات في بحر الصين الشرقي والبحر الأصفر: وذلك بتسعير حدة النزاع فيما يتعلق بتايوان والكوريتين ما يؤدي إلى الضغط على الاقتصاد الصيني بزيادة الإنفاق على السلاح وميزانية الدفاع.
ثالثا: المحافظة على مركز الدولار لدى البنوك المركزية كاحتياطي رئيسي:
لقد كان ترامب أثناء رئاسته الأولى متشككاً في السياسات التي يعتقد أنها قد تضر بمكانة الدولار، نظراً لأهمية الدولار في النفوذ المالي لأمريكا واستقراره عالميا. ومع ذلك، فإنه إذا رأى أن جهود مجموعة بريكس للابتعاد عن الدولار في التجارة العالمية تمثل تهديداً فعالا للقوة الاقتصادية الأمريكية، فقد يتخذ إجراءات لمواجهتها، بما في ذلك:
1- دعم دور الدولار في التجارة العالمية: فقد يضغط ترامب على البنوك المركزية للحفاظ على مكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية، ربما باستخدام الضغط الاقتصادي أو الدبلوماسي أو نفوذ الهيمنة السياسية لمنع الدول من الابتعاد عن الدولار.
2- دعم خطوط التبادل (Swap Lines) والسيولة (Liquidity) بالدولار: من الممكن أن يدعم ترامب أو يحافظ على خطوط التبادل بين الاحتياطي الفيدرالي والبنوك المركزية للحلفاء الرئيسيين والدول التابعة أو التي تدور في فلكها لضمان السيولة ومنع بروز كتل عملات منافسة تستعمل للدفع المالي بعيدا عن الدولار من دول بريكس. حيث تساعد خطوط التبادل في استقرار الأسواق العالمية من خلال ضمان وجود سيولة كافية بالدولار، ما قد يُنظر إليه على أنه أمر حاسم لحماية الدولار من مخاطر التدهور. كما أن خطوط التبادل تقلل من الاعتماد الكبير لأمريكا على نظام البترودولار والذي يمكن البنك الفيدرالي المركزي من إصدار أكثر من 3 تريليون دولار سنويا.
3- دعم العملات الرقمية المشفرة: قد يتوجه ترامب إلى تعزيز نشاط العملات الرقمية المشفرة في التجارة المحلية والعالمية. ولعل استقطابه إيلون ماسك يساعد في هذا الاتجاه، خاصة أن ماسك من أكبر المستثمرين في قطاع العملات الرقمية.
4- المعارضة للتجارة الدولية بعملات أخرى غير الدولار: قد يعارض ترامب مبادرات من قبيل سعي الصين لتسوية المعاملات الدولية باليوان، أو محاولات روسيا لتجاوز المدفوعات بالدولار، ويعمل على تعزيز نظام سويفت العالمي الخاص بالتحويلات المالية بين الدول. فقد يرى أن تحركات الدول للاستغناء عن التعامل بالدولار في التجارة البينية بين الدول تهدد النفوذ الجيوسياسي لأمريكا، وربما يهدد برد فعل تجاري أو فرض عقوبات على الدول التي تبتعد عن الدولار أو حتى افتعال أزمات سياسية أو عسكرية للحيلولة دون إضعاف مركز الدولار العالمي.
الاستراتيجية الاقتصادية الأوسع:
على مستوى الاقتصاد الأوسع، من المرجح أن تركز سياسات ترامب على:
- الحمائية الاقتصادية: سياسات تهدف إلى إعادة الوظائف إلى أمريكا، وتقليل الاعتماد على الواردات الأجنبية، وتأمين اتفاقيات تجارية أفضل للشركات الأمريكية.
- الضرائب وتسهيل التشريعات المالية والاقتصادية: من المرجح أن يدافع ترامب عن خفض الضرائب وتقليل اللوائح لتحفيز النمو الاقتصادي في أمريكا، ما يجعلها أكثر تنافسية على الصعيد العالمي.
بشكل عام، من المرجح أن يركز نهج ترامب في القضايا الاقتصادية العالمية على الدفاع عن المصالح الاقتصادية الأمريكية، خاصة فيما يتعلق بتوازن التجارة، والإنفاق العسكري، وهيمنة الدولار. ومن المحتمل أن يواصل الضغط على حلفاء الناتو لزيادة الإنفاق الدفاعي، واتباع سياسة صارمة ضد الصين، والعمل على حماية الدور المركزي للدولار في الاقتصاد العالمي.
رأيك في الموضوع