في خطوة جديدة تثير القلق، أُعلن عن قرب تنفيذ خطة الحكومة المصرية لطرح المطارات أمام القطاع الخاص في مراحله الأخيرة. هذه الخطوة ليست هي الأولى من نوعها في سلسلة السياسات التي اتبعها النظام المصري في السنوات الأخيرة، والتي يُنظر إليها على أنها تكريس لنهج التفريط في مقدرات الدولة الاقتصادية والسياسية. فمنذ اندلاع ثورة 25 يناير 2011، والحديث عن التفريط بمقدرات البلد يزداد يوماً بعد يوم، سواء أكان ذلك في مجال الاقتصاد أو السياسة أو حتى الأمن القومي.
تعتبر المطارات من أبرز الأصول الاستراتيجية لمصر، فهي تلعب دوراً محورياً في ربطها بالعالم الخارجي عبر حركة الطيران والسياحة والتجارة الدولية. وكانت مصر قد استثمرت بشكل كبير في تطوير البنية التحتية للمطارات في العقود الأخيرة، سواء عبر بناء مطارات جديدة أو تطوير المطارات القائمة لتلبية احتياجات الحركة الجوية المتزايدة. وتأتي فكرة طرح هذه المطارات أمام القطاع الخاص في إطار سياسات الخصخصة التي اتبعها نظام السيسي، والتي تمثل أحد أوجه التخلي عن إدارة الأصول العامة لمصلحة القطاع الخاص المحلي والأجنبي، خضوعا لقرارات صندوق النقد الدولي.
منذ تولي السيسي السلطة عام 2013، لم تتوقف سياسة الخصخصة في مختلف المجالات. فقد خُصخصت العديد من الشركات العامة، من بينها شركات في القطاع الصناعي والنقل والطاقة. وهذه السياسة تتماشى مع برنامج صندوق النقد الدولي في إطار الإصلاحات الاقتصادية المزعومة، والتي هي في حقيقتها تفريط في ثروات مصر وتمكين للغرب وشركاته من نهبها وحماية الدولة وتقنينها لهذا النهب الممنهج، في ظل أزمة اقتصادية خانقة يعاني منها الناس، فهذه السياسات في حقيقتها هي سبب الأزمات ويستحيل أن تكون علاجا لها.
إن المطارات في مصر لا تقتصر على كونها منشآت للنقل الجوي فحسب، بل تشكل جزءاً أساسياً من أمنها، إذ ترتبط مباشرة بحركة السفر الدولية، وبالتالي بالحفاظ على سيادة الدولة ومقدراتها. كما أن السيطرة على هذه المطارات تتيح للدولة التحكم في حركة التجارة أو جزء منها، فالمطارات تعتبر نقاط عبور حيوية للتجارة، حيث يتم استيراد وتصدير العديد من السلع عبرها.
لذلك، فإن طرح المطارات أمام القطاع الخاص يمثل قفزة في التفريط في إحدى الركائز الأساسية للاقتصاد المصري، ويزيد من حجم التبعية للغرب وشركاته الناهبة للثروات. والتفريط بها ليس سوى حلقة في سلسلة السياسات التي تهدف إلى التفريط في ثروات مصر؛ من بيع الأراضي والمصانع إلى خصخصة المرافق الحيوية. ويبدو أن النظام المصري يسير بخطا ثابتة نحو تقليص سيطرته على القطاعات الاقتصادية الكبرى. وهذه السياسة ليست جديدة في تاريخ مصر الحديث، فقد بدأت مع اتفاقات ثورة يوليو 1952 أيام عبد الناصر الذي كان يدعي الاشتراكية، ثم كامب ديفيد في سبعينات القرن الماضي، وتواصلت عبر مراحل مختلفة، لتصل إلى ذروتها في الوقت الراهن.
لكن ما يثير القلق هو أن هذه السياسات ليست فقط جزءاً من جولة جديدة من الخصخصة، بل تمثل تخلياً عن حق الناس في الاستفادة من هذه الثروات. ومع التحديات الاقتصادية التي تواجهها مصر اليوم، من التضخم المتزايد إلى قلة فرص العمل، فإن بيع الأصول أصبح أحد الحلول التي يفرضها صندوق النقد الدولي على النظام بدعوى تخفيف عبء الأزمة، بينما هي ضغث على إبالة.
في ظل الاحتكارات والفساد المنتشر، سيؤدي طرح المطارات وغيرها من الأصول أمام الشركات الخاصة إلى منح نفوذ أكبر لبعض الأفراد أو الشركات التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع دوائر السلطة والغرب، ما يضعف المنافسة ويزيد من التفاوت الطبقي في البلاد. كما أن تلك الشركات قد تسعى لتحقيق مصالحها ومصالح سادتها في الغرب دون النظر إلى مصر وأهلها ومصالحهم، في ظل دولة لا ترعى الناس ولا ترقب فيهم إلا ولا ذمة، بل كل ما يعنيها هو خدمة سادتها في البيت الأبيض!
هذه السياسات تتزامن مع حالة من الاستقطاب السياسي في مصر، فالنظام المصري لا يملك أي رؤية استراتيجية تضمن الحفاظ على موارد مصر أو تحقق العدالة لأهلها وتضمن لهم كرامتهم وحاجاتهم الأساسية أو انتفاعهم بثروات مصر التي هي بعض حقوقهم. يضاف إلى ذلك العصا الأمنية الغليظة والحلول القمعية التي لا يملك النظام غيرها والتي تطال كل المعارضين بل حتى المنافسين في العمالة، ناهيك عن الساعين لاقتلاع النظام واستبدال نظام الإسلام به، فهؤلاء على رأس القائمة، الأمر الذي يزيد من حالة الاحتقان، فتزداد تبعا المخاوف من أن تظل هذه السياسات محط جدل وتزايد للغضب الشعبي في حال لم تترافق مع تحسن ملموس في الأوضاع المعيشية للناس.
إن طرح المطارات المصرية أمام القطاع الخاص سيسهم في تكريس التبعية للغرب وتنفيذ قراراته وسياساته وتمكينه من البلاد ومواردها وحتى أصولها وشركاتها الرابحة والتي تعدّ من الملكية العامة التي لا يجوز للدولة أن تتصرف فيها بالبيع ولا الهبة ولا منح حق الامتياز، بل يجب أن تكون فقط تحت إدارة الدولة حتى ترعى بها الناس رعاية كاملة وحقيقية، فهذا هو ما أوجب الله عليها.
إن الحل الوحيد لمصر وأهلها هو تبني الاقتصاد الإسلامي وتطبيقه كاملا مع باقي أنظمة الإسلام التي يكمل بعضها بعضا في ظل الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، التي ترعى الناس بالإسلام وتقسم الملكيات على أساس شرعه فتضع الملكية العامة وتجعلها تحت إدارة الدولة لترعى الناس بها حقا خير رعاية بعيدا عن الغرب واحتكاره للخدمات وشركاته الناهبة للثروات، وكل ما تقوم به الدولة في الإسلام هو أحكام شرعية واجبة في حقها تجاه رعاياها ولا يجوز لها التقصير فيها، بل تجب محاسبتها على كل تقصير لتبقى قائمة على حدود الله مطبقة لشرعه خير تطبيق، فاللهم أعد لنا دولة الإسلام وسلطانه وشرعه لنستظل بظلها من جديد.
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾
بقلم: الأستاذ محمود الليثي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية مصر
رأيك في الموضوع