لقد مضى أكثر من عامين على حرب روسيا وأوكرانيا، وقد أصبحت روسيا تسيطر على ما يقرب من خُمس الأراضي الأوكرانية، بما فيها شبه جزيرة القرم التي ضمتها عام 2014. ومنذ بداية الحرب تلقت أوكرانيا دعما عسكريا كبيرا من أمريكا والدول الأوروبية على هيئة منظومات مدفعية وصاروخية وأنظمة دفاع جوي متقدمة، من بينها وحدات من نظام باتريوت الأمريكية، ولا تزال أوكرانيا بحاجة إلى المزيد من الأسلحة من الخارج لدعمها في الحرب. وبعد جدل كبير في أمريكا حول دعم أمريكا لأوكرانيا وافق الكونجرس الأمريكي مؤخرا على تقديم حوالي 65 مليار دولار لدعم أوكرانيا في حربها مع روسيا.
ولا شك أن اللاعبين الأساسيين في هذه الحرب هم الولايات المتحدة وروسيا، ومسرح الحرب المباشر هي أوكرانيا والمسرح الأكبر غير المباشر هي أوروبا.
أما غاية الولايات المتحدة الأولى من تمويل هذه الحرب والعمل على إبقاء جذوتها مشتعلة فهي تتعلق باستمرار قبول أوروبا للحماية الأمنية الأمريكية من خلال حلف شمال الأطلسي الناتو، والتي كانت أوروبا ممثلة بفرنسا قد بدأت تتحفز للاستقلال أمنيا عن أمريكا، وحجتها الرئيسة في ذلك أنه لم يعد هناك حاجة للأمن والحماية الأمريكية بعد زوال تهديد الاتحاد السوفياتي لأمن أوروبا. ومن ثم التوجه نحو روسيا لتأمين إمدادات الطاقة من خلال معاهدات نوردستريم 1 و2. فجاءت حرب روسيا وأوكرانيا لتعيد أوروبا حساباتها وتتمسك بالناتو الذي غدا أقوى من ذي قبل، كما ورد في تقرير مؤسسة راند (شهر 3/2023) "لقد أصبحت القضايا الأمنية مرة أخرى ذات أهمية قصوى بين أعضاء حلف شمال الأطلسي، الأمر الذي يجعل الحلف أكثر أهمية بكثير". ثم إن الحرب قد أدت إلى إلغاء اتفاقية نوردستريم 2 وحرمت أوروبا من مصدر مهم للطاقة غير خاضع للهيمنة الأمريكية.
أما الغاية الثانية لأمريكا فهي تشبه إلى حد بعيد ما حصل مع الاتحاد السوفياتي حين تورط في حرب أفغانستان والتي وقفت أمريكا وراءها بالسلاح والدعم اللوجستي والمالي لعشر سنوات، ما أدى إلى انهيار الاتحاد السوفياتي وخروجه من الموقف الدولي. فجاءت حرب روسيا في أوكرانيا اليوم لتشكل ضغطا سياسيا وعسكريا وماليا على روسيا تجعل الطريق أمامها للعودة للنظام الدولي كقوة عظمى مستحيلا أو شبه مستحيل. فقد تكبدت روسيا حتى الآن ما يزيد على 300 ألف عسكري بين قتيل وجريح حسب التقارير الغربية (150 ألفاً حسب تقارير روسيا)، كما بلغت تكلفة الحرب المباشرة حوالي 211 مليار دولار. أما التكلفة الكلية للاقتصاد الروسي فقد زادت عن 1.3 تريليون دولار، ما يبين أن أمريكا تسعى لإضعاف روسيا أو تحجيمها بحيث تبقى على ما كانت عليه خلال العقدين الماضيين لا تمثل سوى شرطي تستعمله أمريكا في الهيمنة على مناطق مختلفة كما حصل في سوريا وليبيا.
أما روسيا فإنها حتى الآن لم تحقق الأهداف المعلنة من الحرب بشكل تام، خاصة تلك المتعلقة باستقلال إقليم دونباس واستكمال السيطرة على مقاطعة دونيتسك، بالرغم من سيطرتها مؤخرا على مدينة أفدييفكا. فقد كانت روسيا قد احتلت مدينة خيرسون الاستراتيجية لمدة 10 أشهر ثم انسحبت منها تحت ضغط القوات الأوكرانية وتمويل الغرب لحربها مع روسيا. ويبدو أن مدى الحرب بين الدولتين قد يمتد إلى أشهر أخرى. وأما الحيلولة دون انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، فلم يعد لهذا الهدف أهمية كبرى خاصة بعد انضمام السويد وفنلندا للناتو، والإعلان كما جاء في تقرير راند أن الناتو الآن أصبح أقوى من أي وقت مضى منذ إنشائه.
وأما أوروبا فعادت بها الأيام ودهاليز السياسة إلى فترة الحرب الباردة حين كانت مسرحا للحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفياتي، مستاءة من هيمنة أمريكا على أمنها الاستراتيجي، وتخشى الاتحاد السوفياتي وقوته النووية الضاربة، وتعتمد على مصادر الطاقة التي تهيمن عليها أمريكا. فعادت الآن كما كانت بين مطرقة أمريكا وسندان روسيا. وتجد نفسها مهتمة بدعم أوكرانيا دعما يمكنها من الانتصار وإنهاء الحرب وليس فقط استمرارها بالقتال لفترات طويلة كما تفعل أمريكا. فأوروبا تريد للحرب نهاية سريعة للتخلص من شبح الصراع الأمريكي الروسي الذي يقلقها بشكل قوي.
والمحصلة في كل ذلك وحتى اليوم أن القضايا الدولية الرئيسية تتحكم بها دول تدين بمبدأ واحد وهو المبدأ الرأسمالي، الذي لا يزال يسوم البشرية بشتى أنواع العذاب ويفرض عليها أقسى أشكال الضنك. وهو لا يتردد في استخدام أبشع الوسائل كالحروب الطاحنة التي يذهب ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء في سبيل بسط نفوذ، أو تحقيق مصلحة، أو كسب ثروة. وهو هو كما كان في الحرب العالمية الأولى والثانية اللتين ذهب ضحيتهما أكثر من 100 مليون إنسان بين قتيل وجريح ومُقعد، وهو هو اليوم في حرب ليس لها هدف ولا غاية تمت إلى الإنسانية بصلة في أوكرانيا، وأخرى في فلسطين حيث أهدرت الحرب حياة أكثر من مئة ألف من المسلمين في فلسطين، وهو هو في الحرب التي أذكاها وأوقدها وحافظ عليها أكثر من 10 سنين في سوريا زادت ضحاياها عن 8 ملايين إنسان بين قتيل وجريح ومشرد. ولا يزال هذا النظام بمبدئه القاتل يتربع على عرش العالم بلا منازع حقيقي ينتزع منه السيادة.
فمتى يتحرر العالم ويتم إنقاذ البشرية من حمأة الرأسمالية وطغيانها؟ ومتى ينعم البشر بالعدل والطمأنينة الحقة؟ ألم يأن للذين آمنوا أن يقدموا للبشر كافة الميزان الذي قامت به السماوات والأرض، والناموس الذي تسير به الكواكب والنجوم والشمس والقمر بلا تصادم ولا انهيار ولا عوجا ولا أمتا؟
لقد اشتاق العالم كله بيضا وسودا، عربا وعجما، شيبا وشبانا، نساء ورجالا، شجرا وبحارا وهواء، لقد اشتاقوا إلى عدل الرحمن، الذي خلق الإنسان، وعلمه البيان، ورفع السماء، ووضع الميزان وأمر بأن لا يطغى البشر في الميزان. ومن أجل ذلك أرسل الرسل بالبينات وأنزل الكتاب والميزان ليس إلا ليقوم الناس بالقسط، وينعموا بالعدل ويتم القضاء على الطاغوت.
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾
رأيك في الموضوع