تمخضت زيارة الأميرال روب باور، رئيس اللجنة العسكرية لمنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) لتونس يومي 15 و16 نيسان/أبريل 2024، عن اتفاق الطرفين "بتكثيف الحوار السياسي المنتظم" بين تونس والناتو وعلى "ضرورة إدماج محاور تعاون جديدة بينهما على غرار الهجرة والتحولات المناخية ومكافحة الإرهاب".
وتأتي هذه الزيارة قبيل الدورة العشرين لمناورات "الأسد الأفريقي" العسكرية المزمع إقامتها في المغرب، خلال الفترة من 20 إلى 31 أيار/مايو، التي سيشارك فيها أكثر من عشر قوات عسكرية شريكة وعلى رأسها القوات المسلحة الأمريكية وتونس والمغرب، ويزداد بهذه المناسبة منسوب تخوف وغضب القيادات الجزائرية من هذا التمرين العسكري الأكبر داخل القارة الأفريقية من ناحية تعدد الجنسيات، حيث شارك كيان يهود في الدورة 19 سنة 2023. ومن المعلوم أن حلف الناتو يمثل الذراع العسكري للولايات المتحدة، تهيمن به على دول الحلف، وتستخدمه في المحافظة على مصالحها في العالم.
وتمثل الاتفاقيات العسكرية والمساعدات الاقتصادية أهم الأساليب الأمريكية للهيمنة على الدول الضعيفة بما في ذلك دول شمال أفريقيا ذات النفوذ الأوروبي العريق، وقد ازداد الاهتمام الأمريكي بدول شمال أفريقيا بعد ثورات الربيع العربي، حيث تدخل حلف الناتو سنة 2011 في ليبيا للإطاحة بالقذافي، وتتالت زيارات المسؤولين الأمريكيين لتونس بدءا بالرئيس أوباما سنة 2011 إلى الزيارات المكوكية لوزير خارجيته جون كيري، ليتم سنة 2015 منح تونس صفة "حليف مميز" للولايات المتحدة خارج حلف شمال الأطلسي (الناتو) خلال الزيارة التي قام بها الرئيس التونسي السابق الباجي قائد السبسي لأمريكا خلال حكم أوباما. واللافت، أنه منذ منتصف العام 2004، استطاع المغرب الحصول على صفة "حليف رئيسي" لحلف الناتو، من خارج الحلف، كثاني بلد عربي يتحصل على هذه الصفة بعد مصر.
إن أمريكا تدرك أن الوسط السياسي في الشمال الأفريقي هو لأوروبا، ولذلك عمدت إلى وسائل أخرى غير الأعمال السياسية المعتادة مع الوسط السياسي للنفاذ إلى المنطقة، ومن أبرزها أمران: الأول موضوع الإرهاب واستغلاله للاتفاقيات العسكرية والنفاذ عن طريق الجيش والتدريب والمساعدات العسكرية ثم القواعد العسكرية. والثاني المساعدات الاقتصادية والمؤسسات الدولية التابعة، وكان من محاولات إنشاء القواعد القرار الذي اتخذه جورج بوش الابن بإنشاء قيادة عسكرية أمريكية في أفريقيا "أفريكوم" سنة 2007.
إن مشروع أفريكوم قد تم تسويقه بحجة الحرب العالمية على (الإرهاب)، إلا أن هذا المشروع يحمل في طياته الكثير من الأهداف التي تصب كلها لتكريس الهيمنة الأمريكية على العالم، فهو ليس لحماية أفريقيا من مخاطر (الإرهاب)، وإنما هو في إطار الاستراتيجية الأمريكية العالمية للسيطرة على منابع البترول والثروات ومراقبة كل الممرات البحرية في العالم من جهة، وإزاحة النفوذ الاستعماري القديم (بريطانيا وفرنسا) ليكون مكانه الاستعمار الجديد (أمريكا)، أي هو صراع على امتصاص الدماء ونهب الثروات من جهة أخرى.
وقد حاولت أمريكا إيجاد قاعدة لقوات أفريكوم في الجزائر بحجة (محاربة الإرهاب)، ولكن الجزائر رفضت لأنها ومن خلفها بريطانيا تدرك أن هذه القاعدة الأمريكية هي للتدخل في شئون الجزائر، ولذلك صرحت الخارجية الجزائرية في 3/3/2007: (أن الجزائر غير معنية باستضافة مقر القوات الأمريكية الخاصة لأفريقيا "أفريكوم")، وحاولت مرة أخرى إثارة موضوع (محاربة الإرهاب) مستغلة أحداث مالي في 22/3/2012، وحدثت بينها وبين الجزائر زيارات من أهمها زيارة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية واجتماعها بعبد العزيز بوتفليقة في 29/10/2012 لإشراك الجزائر في مكافحة الإرهاب بحجة أنه قد يصل الجزائر، ومع ذلك رفضت الجزائر ومن خلفها بريطانيا، الخطة الأمريكية.
لذلك غضبت الجزائر من منح أمريكا تونس مرتبة حليف من خارج الناتو كما فعلت مع المغرب والأردن والبحرين، خوفا من تطويقها بقواعد عسكرية أمريكية في المغرب وتونس، وقد حاول الرئيس التونسي السابق السبسي تلطيف الأجواء السياسية بينهما فأرسل مبعوثه الخاص خميس جهيناوي وحمله رسالة إلى نظيره الجزائري يوم 24/6/2015، ليشرح لنظيره الجزائري بأن توقيع هذه الاتفاقية لا يخرج عن كونه مداراة لأمريكا، دون أن يكون لها أي نفوذ في تونس أو تهديد لدول الجوار.
وأمريكا مستمرة في سياسة الجزرة والعصا وتركز حالياً على ليبيا وتونس مستغلة هشاشة الحكم فيهما بسبب الصراع القائم على الحكم في كلا البلدين. فبالنسبة لليبيا، تتمركز منذ سنوات في معسكر بضواحي مدينة بنغازي قوة من الجيش الأمريكي، تتكون من عشرات الضباط معززة بأفراد من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وبأجهزة تتبع وتنصت ومراقبة للطيران المُسيّر، في مقابل وجود قوة مماثلة قوامها 300 عنصر من الجيش والمخابرات الأمريكية في طرابلس بحسب اللواء أحمد المسماري المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي، في تصريح له سنة 2019.
أما بالنسبة لتونس فقد نفت في أكثر من مناسبة، وجود قاعدة عسكرية أمريكية بالأراضي التونسية ليس آخرها تصريح وزير الدفاع التونسي ممّيش خلال جلسة مساءلة له في البرلمان، في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، حيث نفى بشكل قاطع صحة ما يتداول بشأن وجود قواعد عسكرية أجنبية في البلاد. وقال ممّيش: "هذا الكلام خيالي وليس له أساس في ظل حرص رئيس الجمهورية قيس سعيد على سيادة البلاد".
وبصرف النظر عن وجود قاعدة أمريكية تحمل العلم الأمريكي وتحت قيادتها، فإن إقرار تونس بأنها الحليف الاستراتيجي خارج حلف الناتو، يؤكد أن الاتفاقية عسكرية، ففي أيار/مايو 2020، أكدت القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا "أفريكوم" أنها تدرس مع تونس إرسال لواء للمساعدة الأمنية في تونس بغرض التدريب، قبل أن تنشر بيانا توضيحيا أكدت فيه أنها ستكتفي بإرسال "وحدات تدريب" إلى تونس ولن تكون لها خطط لمهام قتالية.
هذا بالإضافة إلى زيارة وزير الدفاع الأمريكي مارك أسبر إلى المنطقة المغاربية يوم 02 تشرين الأول/أكتوبر 2020 إلى المغرب، ومن قبلها إلى تونس يوم 30 أيلول/سبتمبر، ثم الجزائر يوم 01 تشرين الأول/أكتوبر، وقد تم توقيع ما سمي بوثيقة خارطة طريق لآفاق التعاون العسكري بين الولايات المتحدة ودولتي المغرب وتونس في مجال الدفاع بالنسبة إلى العشرية القادمة، زعموا أنّها لمجابهة التحديات الأمنية، وخاصة مُحاربة ما يسمى بالإرهاب الذي يأتي على رأس مجالات التحالف، وهو ما أكّده الرئيس التونسي قيس سعيّد الذي عبّر عن أهمية التعاون بين بلاده وواشنطن في مواجهة التحديات المشتركة، وفي مقدمتها الإرهاب.
ورغم التوقيع على هذا الاتفاق، فإن الرئيس قيس سعيّد لم يسلم من المكر الأمريكي ولا زال يكافح من أجل البقاء في الحكم، فمنذ انقلابه على عملاء الإنجليز بمساعدة فرنسية في 25 تموز/يوليو 2021 والإطاحة بكل الركائز التي كانت تعتمدها بريطانيا في الإمساك بالبلاد، رغم ذلك لا زال يتخوف من الكيد الأمريكي، ويسعى لإزاحة كل منافسيه في الانتخابات الرئاسية القادمة أواخر العام بقانون انتخابي يتم تجهيزه على قياسه.
فالمحاولات الأمريكية للنفاذ إلى تونس لم تقتصر على أذرعها العسكرية فحسب، بل استخدمت أذرعها المالية، فعطلت قرض صندوق النقد الدولي لتونس رغم وعد الرئيس ماكرون نظيره التونسي بالوقوف مع تونس في مفاوضاتها مع الصندوق، ورغم الاتفاق على مستوى الخبراء المبرم بين تونس والصندوق في منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2022، رغم كل ذلك رفض المجلس التنفيذي للصندوق منح تونس قرضاً، ما جعل الخارجية الفرنسية تصاب بالصدمة. ووصف الرئيس قيس سعيّد شروط الصندوق "بمثابة عود ثقاب يشتعل إلى جانب مواد شديدة الانفجار".
إن تكثيف الزيارات ما هو إلا استمرار للمخططات الأمريكية والأوروبية في التنافس على ثروات المنطقة وموقعها الاستراتيجي، فأمريكا وأوروبا، لم تبدءا أطماعهما اليوم في الشمال الأفريقي، بل قبل أفريكوم وخلالها وبعدها... وإن دول الغرب وعلى رأسها أمريكا لن يستأصل وجودها من بلادنا إلا دولة الخلافة على منهاج النبوة، وهو ما يستوجب من أهل الرأي والفكر والقوة العمل مع المخلصين لإقامتها، فينالوا بذلك عزّ الدنيا وأجر الآخرة.
رأيك في الموضوع