لا يبدو الرئيس قيس سعيد سيتوقف عن تفكيك المنظومة التي حكمت بعد 14 كانون الثاني/يناير 2011، فبعد تفعيل الفصل 80 من الدستور في 25 تموز/يوليو 2021 وتجميد عمل البرلمان وحل الحكومة المنبثقة عنه وتمديد الإجراءات الاستثنائية في 22 أيلول/سبتمبر من خلال المرسوم 117 ووضع نظام مؤقت للسلطات وحكم البلاد بالمراسيم في تعطيل واضح لدستور 2014 مع مواصلة العمل بالبابين الأول والثاني منه وبجميع الأحكام الدستورية التي لا تتعارض مع تدابيره الاستثنائية، إضافة إلى إلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، في سيطرة مطلقة على السلطتين التشريعية والتنفيذية، لم يكتف الرئيس بذلك بل عمد إلى حل المجلس الأعلى للقضاء في كلمة من مقر وزارة الداخلية الأحد 6 شباط/فبراير أعلن فيها أن "المجلس الأعلى للقضاء أصبح في عداد الماضي" في خطوة سرعان ما أكدها في المجلس الوزاري الذي انعقد يوم الخميس 10 شباط/فبراير 2022 ثم بإصدار مرسوم يوم السبت 12 شباط/فبراير لوضع هيئة وقتية قضائية لتحويل المجلس من سلطة منتخبة إلى مجلس معين، دون أن ننسى تعطيله إنشاء المحكمة الدستورية قبيل إجراءات 25 تموز/يوليو بأشهر.
بهذه الخطوة يكون الرئيس قيس سعيد قد سيطر على السلطات الثلاث ليمضي قدما نحو مشروع البناء القاعدي بعدما أطلق خارطة طريق تبدأ بالاستشارة الوطنية الإلكترونية وتمتد من 15 كانون الثاني/يناير إلى 20 آذار/مارس 2022، ثم تنظيم استفتاء في 25 تموز/يوليو المقبل بشأن تعديل الدستور وإجراء انتخابات تشريعية في 17 كانون الأول/ديسمبر 2022.
وبالرغم من أن قيس سعيد قد انقلب على خصومه بدعم فرنسي واضح إلا أن تبعيته لها ليست تقليدية، فبالرغم من أن قيس سعيد قد أطاح بعملاء بريطانيا وعلى رأسهم حركة النهضة وضرب الركائز التي كانت تعتمد عليها في ربط البلاد بنفوذها كتجميد البرلمان وضرب الحكم المحلي وتعطيل المحكمة الدستورية وتغيير كوادر وزارة الداخلية والإطاحة بالمجلس الأعلى للقضاء، بالرغم من ذلك فإن الرئيس سعيد يعمل كذلك لحسابه الخاص حسبما تسمح به الظروف لتحقيق مشروع اللامركزية الذي يمر عبر المجالس المحلية لتشكيل السلطة التشريعية والرقابية من المحلي نحو المركزي، وهو مشروع اشتراكي ماركسي لا يمكن تطبيقه إلا عبر القوة القاهرة. وهو ما دفع بعملاء فرنسا التقليديين كحزب آفاق تونس والتكتل الديمقراطي وغيرهم إلى الانفضاض عنه، وربما استقالة أو إقالة مديرة الديوان الرئاسي، نادية عكاشة التي تمثل المخلب الفرنسي في قصر قرطاج يوحي بأن العلاقة بين قيس سعيد وفرنسا ليست على ما يرام
لقد جاءت قرارات الرئيس سعيد الأخيرة وتونس تعاني أزمة اقتصادية خانقة زادتها سوءا تداعيات جائحة كورونا التي تضرب البلاد مع تحذيرات من عدم قدرة الحكومة على دفع أجور الموظفين وإمكانية انهيار الدولة إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، خاصة وأن الضغوط الأوروبية وخاصة الأمريكية على سعيد تتعاظم عبر صندوق النقد الدولي الذي ضغط على جميع المؤسسات المالية بعدم مد تونس بقروض لتغطية عجز الميزانية الذي بلغ 10.4 مليار دينار (3.72 مليار دولار) سنة 2021.
أما خصوم قيس سعيد وبخاصة حركة النهضة ومن ورائها بريطانيا، فقد أُسْقِط في أيديهم في ظل الغضب الشعبي من الطبقة السياسية، لذلك فإنهم يراهنون على الوقت وعلى أن الأمور لن تستقر لقيس سعيد في ظل الصعوبات الاقتصادية التي قد تفجر الغضب الشعبي من جديد، وعلى تململ بعض النافذين من رجال الأعمال وحلفائهم في الداخل من توجهات الرئيس ونواياه، وعلى تعدد مراكز القوى في الدولة وعدم انسجامها، والمراهنة على أنها قد تغير موازين القوى في الشارع.
لقد ابتلي أهلنا في تونس بجزء كبير من السياسيين (حكاما ومعارضة) يعظمون الغرب ويقرون بهيمنته على البلاد، سياسيون لا يرون غضاضة في الاستعانة بالأجنبي، بالرغم من أن ذلك يمثل انتحارا سياسيا وخيانة للأمة ومخالفة صريحة لقوله تعالى: ﴿لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾.
فبعدما أطاح الرئيس قيس سعيد بدعم فرنسي بأتباع بريطانيا في الحكومة والبرلمان، ازدادت حمى التدخلات الأجنبية في تونس، فبعد تأكيد ماكرون لقيس سعيد بأنه: يمكن لتونس الاعتماد على دعم فرنسا، وزيارة الوفد الأمريكي برئاسة مستشار بايدن لشمال أفريقيا والشرق الأوسط، والتدخل السافر للاتحاد الأوروبي، وتحركات سفير بريطانيا بين ممثلي الرئاسة وخصومهم في البرلمان، وزيارة وفد الكونغرس الأمريكي ولقائه بالرئيس سعيد وأعضاء من البرلمان التونسي، ها هو الممثل السامي للاتحاد الأوروبي المكلّف بالشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، جوزيف بوريل، يعبر عن قلقه ويدعو يوم الاثنين 7 شباط/فبراير الرئيس سعيد للفصل بين السلطات، لتصبح تونس مرتعا للتدخلات الخارجية ومسرحا للصراعات الدولية.
لن تستقر الأمور للرئيس قيس سعيد، فبعد مدة سيدرك الشعب التونسي أن حاله ازدادت سوءاً، فحجم الدين الخارجي بلغ أكثر من مائة مليار دينار والضغوط الخارجية لالتهام ما تبقى من مقدرات الشعب التونسي سوف تستمر، وحكومة الرئيس ليست سوى أداة لتطبيق المنظومة الرأسمالية الغربية التي لن يجني الناس منها إلا البؤس والشقاء. بالإضافة إلى تأمين مصالح الغرب وشركاته الناهبة، عندها سوف يتراكم الغضب وقد يدفع ذلك للسيناريو الأسوأ لمنع الانفجار، وذلك بتحرك (سيسي) تونسي يتم إعداده على نار هادئة من إحدى القوى الأجنبية.
وتبقى الشمعة المضيئة ومحط الرجاء أن يهتدي الشعب التونسي إلى أنه لا خلاص له إلا بالإسلام وحكم الإسلام، فيقلب الطاولة على الغرب وأدواته المحلية، مستعينا بأهل القوة والمنعة، فيسترجع سلطانه ويمكن المخلصين من أبنائه لتأسيس حكم راشد على أساس الإسلام في ظل خلافة راشدة على منهاج النبوة، تحرر المنطقة من النفوذ الغربي وتجمع من طاقات الأمة وقواها ما يمكنها من الوقوف في وجه أعتى الدول.
﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً﴾
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع