في 29 أيلول/سبتمبر، عيّن الرئيس قيس سعيّد الأستاذة الجامعية نجلاء بودن لتشكيل الحكومة وتعيين أعضائها، في خطوة تُمثّل هروبا إلى الأمام للتشويش على خصومه والتخفيف من الاستقطاب الثنائي الذي لم يعد في صالحه، والأهم من ذلك التخفيف من الضغوط الخارجية وبالذات الأمريكية التي تطالبه منذ مدة بتعيين حكومة وإعادة تركيز مؤسسات الدولة من جديد.
ولعل تعيين امرأة لرئاسة الحكومة في جانب منه مغازلة للخارج أكثر منها للداخل، فالرئيس قيس سعيّد عيّن لحد الآن ثلاثة رؤساء حكومة ليس على معيار الكفاءة وإنّما فقط على أساس الولاء لشخصه وإرضاء للقوى الغربية، حيث أعلنت الرئاسة الفرنسية يوم السبت 2 تشرين الأول/أكتوبر أن الرئيس إيمانويل ماكرون أجرى مباحثات بشأن الوضع السياسي في تونس مع نظيره التونسي قيس سعيّد الذي أبلغه أن حكومة جديدة ستتشكل خلال الأيام المقبلة، وهو ما يبدو طمأنة للرئيس الفرنسي الذي طالبه بتشكيل الحكومة منذ الأيام الأولى للانقلاب.
إذن يأتي تكليف رئيسة الحكومة بعد شهرين من سيطرة الرئيس قيس سعيّد على الحكم بدعم فرنسي للإطاحة بخصومه عملاء بريطانيا في 25 تموز/يوليو 2021، قبل أن يستأثر بالسلطة التنفيذية والتشريعية في 22 من أيلول/سبتمبر، بالإضافة إلى إلغاء هيئة مراقبة دستورية القوانين، وتولّي إعداد مشاريع التعديلات المتعلقة بالنظام السياسي والقانون الانتخابي، ليمضي حسبما تسمح به الظروف لتحقيق مشروع اللامركزية أو التمثيلية الحقيقية الذي يمر عبر المجالس المحلية لتشكيل السلطة التشريعية والرقابية من المحلي نحو المركزي، وهو مشروع اشتراكي ماركسي لا يمكن تطبيقه إلا عبر القوة القاهرة.
لقد طالب قيس سعيّد أن تكون مقاومة الفساد أولوية الحكومة التي ستواصل عملها حتى نهاية التدابير الاستثنائية التي أقرها قبل شهرين، فركّز على محاربة فساد السياسيين وحلفائهم دون الحديث عن فساد النظام الرأسمالي الديمقراطي الذي يمثل أسّ البلاء وسبب الشقاء، في محاولة خبيثة لتوجيه غضب الناس نحو أشخاص الحكم، حتى تبقى المنظومة الغربية بمنأى عن المحاسبة والمساءلة، فتبقى الأمة في حلقة مغلقة، مرة يشغلونها بالانتخابات وأخرى بالانقلابات.
إنّه لمن السذاجة الانشغال بأشخاص الحكم في منظومة فاسدة، فالقضية هي في النظام العلماني والنفوذ الأجنبي، أما الحكومة ومحاربة الفساد فكلها ألهيات لصرف الناس عن التفكير في مرحلة ما بعد الرئيس قيس سعيّد والبرلمان، أي في الخيار الثالث، أي بناء دولة راشدة على أساس الإسلام توفر للناس العيش الكريم.
لا يبدو مشوار الحكومة سهلا في ظل تربص الخصوم في الداخل والخارج، فإحكام الرئيس قبضته على الحكم زاد من خصومه وعزلته، حتى من طرف من كانوا بالأمس القريب من مؤيديه، كحزب التكتل الديمقراطي والحزب الدستوري وحزب آفاق تونس وغيرهم من القوى الحية في البلاد، وهو ما شكل مع حركة النهضة وائتلاف الكرامة وحزب قلب تونس جبهة قوية معارضة للانقلاب، حيث التجأت هذه القوى إلى الشارع للضغط على الرئيس، ليس آخرها حشود 26 أيلول/سبتمبر أمام المسرح البلدي بشارع الحبيب بورقيبة.
كما شكلت الدعوة إلى استئناف نشاط البرلمان بداية من 1 تشرين الأول/أكتوبر إرباكا للانقلاب وتهديدا للحكومة القادمة، لأن استئناف النواب لعملهم ولو عن بعد واتخاذهم قرارات بعدم شرعية الحكومة ستمثل من أخطر الأعمال السياسية التي تهدد الانقلاب، وقد بدا واضحا التعزيزات الأمنية الكبيرة حول البرلمان والحملة الإعلامية المركزة ضد هذه الخطوة وخطورتها في إمكانية تقسيم البلاد إلى سلطتين واحدة في قرطاج وأخرى في باردو.
التحدي الكبير الذي يواجه الحكومة هو الأزمة الاقتصادية الخانقة والمديونية الهائلة التي تجاوزت 100 مليار دينار، وعلى الحكومة أن تجد مصادر لتعبئة خزينة الدولة الخاوية التي تحتاج حتى نهاية 2021 ما لا يقل عن 12 مليار دينار لتغطية نفقات الدولة وخلاص الديون، وفي ظل رفض البنوك المحلية إقراض الدولة بسبب المخاطر، فإنه لم يبق للحكومة إلا الالتجاء إلى الخارج وهو ما يشكل أداة ضغط على الحكومة من طرف الدول التي تتحكم في مصادر التمويل وعلى رأسها أمريكا، المستفيد الأكبر مما أقدم عليه قيس سعيد، حيث لم تتوقف وفودها عن زيارة تونس ونشط سفيرها دونالد بلوم في الأوساط السياسية ومنظمات المجتمع المدني وحتى في الجيش، حيث التقى يوم الثلاثاء 28 أيلول/سبتمبر برؤساء أركان الجيش التونسي برفقة قائد أفريكوم الجنرال تاونسند، والملاحظ أن قائد أفريكوم التقى في جولته المغاربية برئيس الحكومة الليبية الدبيبة والرئيس الجزائري تبون ولكنه لم يلتق الرئيس قيس سعيّد (بالرغم من أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة) واقتصر على رؤساء الأركان في الجيش التونسي، وهي رسالة سياسية مفادها أن أمريكا غير راضية على إجراءات الرئيس أو على الأقل لا تريد أن تضفي عليه الشرعية.
لا يبدو الرئيس قيس سعيد وفيّا للثورة، بالرغم من تلويحه بذلك في خطابه يوم 20 أيلول/سبتمبر في مدينة سيدي بوزيد مهد الثورة، لأنه بقي أسيرا للمنظومة الغربية التي ثار عليها الناس في 17 كانون الأول/ديسمبر 2010، وعين رئيسة حكومة محسوبة على النخبة الفرنكفونية، وتعتقل أجهزته الأمنية شباب حزب التحرير الذين يعملون لتحقيق أهداف الثورة وذلك بإسقاط المنظومة الغربية بكل أشكالها وأركانها ورموزها وإقامة نظام ينبثق من عقيدة الأمة ومشروعها الحضاري.
لذلك فإننا نهيب بأهلنا في تونس وبخاصة الساسة والخبراء وأهل الفكر والرأي أن يعيدوا القطار إلى سكته الصحيحة؛ بإعادة تحديد ثوابت الثورة بدقة ووضوح، فقضيتنا ليست تغيير حكومة وتنقيح دستور، وإنما هي إسقاط النظام كاملاً، والتحرر من نفوذ الغرب المستعمر، ثم التوحّد جميعاً على أساس المشروع السياسي الواضح المستنبط من الكتاب والسنة الذي يقدمه حزب التحرير، والمضيُّ قدماً مع الحزب وبقيادته السياسية نحو إرضاء الله، وتحقيق أهداف الثورة ومصلحة الأمة وسعادتها في الدارين، بإقامة دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع