إن فهم أي مسألة سياسية يقتضي فهم محيطها، وما يكتنفها من أمور وأحداث، وفهم ماضيها وواقعها، وفهم واقع الدول التي تشترك في أحداثها، وفهم مبدئها ونظرتها من خلال هذا المبدأ، وكذلك فهم الموقف الدولي والدول الفاعلة فيه، والدول التابعة للدول المؤثرة، وكذلك فهم القضايا المصيرية التي يمكن أن تترتب عليها أحداث فاصلة يتخذ تجاهها إجراء الحياة أو الموت عند الشعوب، وفهم قدرات الدولة وطاقاتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وما يوجد من تحالفات معها وحولها...
فهذه من أبرز الأمور التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند النظر لأية قضية في العالم؛ سواء أكانت كبيرة (دولية)، أم صغيرة (إقليمية). ولا يجوز أن نجرّد القضايا عن محيطها وواقعها؛ فهذا لا يؤدّي إلى الرأي الصحيح في فهم الأحداث والوقائع السياسية. ونحن بصدد الحديث عن الأزمة الأوكرانية من زاوية التأثيرات والمؤثرات الدولية. وهنا لا بد أن نرتكز على بعض الأمور الضرورية من خلال الخطوط العريضة التي ذكرناها في المقدمة. ومن الأمور البارزة التي يجب أخذها بعين الاعتبار أثناء الحديث عن هذه الأزمة:
1- أن هذا الصراع جذوره وتأثيراته دولية، وليس صراعا إقليميا يخص منطقة أوكرانيا وحدها.
2- الغرب وعلى رأسه أمريكا، يسعى لجعل روسيا ضمن إطار سياسي واقتصادي وعسكري معين، لا تتجاوزه بحيث لا يؤثر على هيمنتها الدولية.
3- أمريكا تريد جعل أوروبا أيضا ضمن حدود وسياسات معينة، لا تتجاوزها؛ حتى لا تتمرد عليها وتستقل بسياساتها فتصبح تهديدا اقتصادياً يضاف إلى تهديد الصين.
4- روسيا تعتبر نفسها هي المهيمنة على إرث الاتحاد السوفياتي السابق ودوله؛ عبر تحالفات واتفاقات مع هذه الدول، وتقف في وجه أي سياسة أو أعمال خارجية أو داخلية لخرق وإلغاء هذا التصور وهذه النظرة.
5- العلاقة المتنامية بين الصين وروسيا تعتبرها أمريكا تهديدا فعليا لنظرتها وتطلعاتها في التفرد والهيمنة العالمية.
6- أمريكا تزج بأوكرانيا ودول أوروبا في حتمية المواجهة مع روسيا، وتثير المشاكل لأوروبا وتدفعها للاصطدام مع روسيا.
7- الشعوب في أوروبا توازن الأمور حسب المصالح الاقتصادية وظروف العيش، ولا يهمها القيم الغربية المزورة الكاذبة. وأكبر دليل على ذلك هو صعود اليمين المتطرف في أكثر من دولة أوروبية في الانتخابات الأخيرة.
8- العالم أجمع يعيش في أزمة اقتصادية؛ بسبب سياسات الغرب. وهذه الأزمة الأوكرانية أضافت بعداً جديداً لهذه الأزمة الاقتصادية وعمّقتها وفاقمتها.
9- أمريكا تراهن على استسلام روسيا لسياساتها تماماً كما فعلت سابقا مع ألمانيا والاتحاد السوفيتي من خلال الضغط الاقتصادي، ومن خلال تأثير العقوبات لزيادة الضغوط داخل المنظومة السياسية المحيطة بالرئيس الروسي، ومن خلال الضغط الشعبي الجماهيري.
10- الساسة الروس ومجلس الدوما والقادة العسكريون يعتبرون قضية الهجوم الغربي على روسيا قضية أمن قومي روسي، ويستلزم اتخاذ كافة الإجراءات الضرورية للمحافظة على الأمن القومي.
هذه أبرز الأمور التي يجب أن يُنظر إليها أثناء التحليل والاستنتاج، والنظرة المتفحصة للأزمة الأوكرانية، ولا تنفصل هذه القضايا أبداً عن الأحداث وتفاقمها في أوكرانيا ومحيطها. فقد نظرت روسيا للمسألة الأوكرانية على أنها تحدٍّ لها، وتهديد لأمنها، وزعزعة لاستقرارها برمته، ورأت كذلك أن الغرب لن يقف عند حدود روسيا في أوكرانيا؛ بل سيتبع ذلك كافة المنظومات السياسية والمعاهدات التي وقعتها روسيا مع دول الاتحاد السوفيتي السابقة، وربما أيضا الاتحاد الروسي نفسه، لتبقى روسيا مثلها مثل الاتحاد الأوروبي، لا تقول لا أبدا لأمريكا وسياساتها الخارجية، بل حتى لا تفكر أبداً بالخروج على هذه السياسات.
إن الأمر الرئيس والزاوية المهمة في هذه الأزمة هي نظرة أمريكا للهيمنة على العالم وقيامها بكل الأعمال المتاحة لترسيخ هذه النظرة، وإيجاد الأجواء والأعمال الدولية للدفاع عنها وتحطيم كل الخصوم. والأمر الآخر المهم هو أن روسيا قد جعلت قضيتها تجاه أمريكا والغرب قضية أمن قومي، وهي مستعدة لاتخاذ ما استطاعت من الإجراءات السياسية والعسكرية من أجلها.
وفي الختام نقول: هذه هي الدول الكبرى، وهذه هي سياساتها ونظرتها للشعوب. وهي مستعدة لدمار العالم من أجل رأس المال والهيمنة السياسية، ومن أجل الهيمنة والنفوذ. وهذه بشارة خير جديدة تضاف إلى ما سبق من بشارات: بأن الأرض بحاجة إلى مخلص يخلصها مما هي فيه، وأن البشرية تنتظر من يأخذ بيدها إلى برّ الأمان. وهذا الأمر لن يكون إلا بنظام يحفظ للإنسانية إنسانيتها وكرامتها، وينظر لإسعادها لا إلى ثرواتها وأموالها، وهذا النظام هو نظام الإسلام (الخلافة) التي تطبقه وتحمله رسالة خير وهدى إلى الناس كافة. فنسأله تعالى أن تكون هذه المقدّمات هي آخر المخاض قبل الميلاد العظيم، وأن تكون هذه الدماء وهذه الآلام هي علامات ميلاد جديد للبشرية جميعا ويفرح المؤمنون بنصر الله فيصدق قوله تعالى: ﴿لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾.
رأيك في الموضوع