ما زالت أخبار الانتفاضات المتتابعة، والمتسارعة، والمتسعة في كل ساعة، في الجامعات الأمريكية، تأييدا لأهل غزة ضد جرائم كيان يهود، ومناداةً لوقف الحرب الإجرامية، والكارثية المستعرة فوق رؤوس النساء والأطفال والعزل من الناس، وإلى دعم الجهود الرامية لوقف إطلاق النار في غزة، وأيضا وقف الاستثمارات مع الشركات التي يُزعم أنها تدعم كيان يهود، وسحب استثمارات الجامعات من موردي الأسلحة والشركات الأخرى التي تستفيد من الحرب، والعفو عن الطلاب وأعضاء هيئة التدريس الذين تم تأديبهم أو طردهم بسبب الاحتجاجات، ما زالت هذه الأخبار تتصدر كل وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمقروءة؛ فقد ذكر موقع الجزيرة نت في 27/4/2024 مقالا تحت عنوان: "جامعات تنتفض نصرة لغزة. ما الذي حرك الغضب بقلاع المعرفة الأمريكية؟" جاء فيه: "تشهد أشهر الجامعات الأمريكية مثل كولومبيا وييل وهارفارد ونيويورك... وغيرها من الجامعات ما يمكن أن يوصف بأنه انتفاضة طلابية عارمة؛ احتجاجا على ما تفعله (إسرائيل) في حربها على قطاع غزة، واستنكارا للمواقف الأمريكية التي بدت متماهية مع الرواية (الإسرائيلية)".
فكيف تطورت الأمور بهذا الشكل المتسارع؟ وما هي دوافع هذه الأحداث المفاجئة التي أربكت كل الساسة في أمريكا؟ وهل يمكن أن تتسع لتصبح ثورةً شعبية عارمة تتصدّى لفساد الرأسماليين وانحرافاتهم وظلمهم؟ وما هي الدروس والعبر المستفادة من اشتعال مثل هذه الأحداث في وجه الساسة الأمريكيين، وطرق التصدي لها بطريقة تخالف قيمهم وطريقة حياتهم، وأفكارهم التي يعتنقونها؟!
وقبل أن نبدأ بسرد بعض الحقائق المتعلقة بهذا الموضوع يجب أن نتذكر أولا حقيقة مهمة في هذا المضمار وهي أن الرأسمالية ابتداءً، بما رافقها من ثورات وحركات تحرر استمرت سنوات طويلة، قد قامت تقاوم الظلم والغطرسة، والتسلّط الذي مارسه رجال الدين والكنيسة في العصور الوسطى. والأمر الثاني، الخاص بأمريكا، هو أن أمريكا قامت على ثورة دموية في البداية حتى استقرت الأمور فيها كما هي عليه الآن؛ حيث حصلت ثورة عارمة بين الشمال والجنوب من سنة 1861 إلى 1865، بسبب الظلم الواقع على السود، ثم حصلت المصالحات بزعامة الرئيس أبراهام لنكولن، واستقر الأمر ضمن القوانين الجديدة التي أعقبت الثورة.
أما الأمر الثالث الذي رسخ الظلم، أو استبدل الظلم الجديد بالقديم فهو تسلط الرأسماليين على قطاع واسع من الناس، وهو ما يُسمى بتحكم طبقة الواحد أو اثنين بالمئة بباقي شرائح المجتمع التي تبلغ حوالي 98% وهي الطبقات الكادحة في المجتمعات الرأسمالية.
والحقيقة أن هذه الأحداث ليست هي الأولى ولا الأخيرة التي تشتعل في وجه اعوجاج الساسة، أو النظام الرأسمالي بشكل عام؛ فقد حدثت احتجاجات واسعة من قبل السود وولايات الجنوب مع الشمال سنة 1861، وحدثت احتجاجات ضد أفكار النظام وظلمه وكان أشهرها ما حدث سنة 1886 في مدينة شيكاغو ضد تآكل الأجور، ولتحديد ساعات العمل. وحدثت احتجاجات واسعة في قضية الحرب على فيتنام سنة 1968، وحدثت احتجاجات الألف مدينة خلال الأزمة المالية التي بدأت سنة 2008، ودعت إلى احتلال وول ستريت في مدينة نيويورك في أيلول/سبتمبر 2011.
إن اعوجاج النظام الرأسمالي، واحتجاجات الناس في وجهه أو في وجه من يطبقونه هو أمر مشتهر ومترسخ داخل المجتمع الغربي، بشكل عام. وكلما خبت من جانب اشتعلت من جانب آخر.
أما ما يتعلق بهذه الاحتجاجات العريضة، والواسعة والمتسارعة فإن الأمور بداية جاءت عفوية، وبدون تشجيع من أية جهة سياسية، فهي عبارة عن صرخة في وجه الطغيان، والاستخفاف بالعقول الذي يمارسه الساسة في الغرب على رأسهم حكام أمريكا. وقد وقف في وجهها معظم السياسيين في أمريكا من كلا الحزبين. ويمكن إجمال الأسباب الدافعة لهذه الاحتجاجات بشكل موجز بما يلي:
1- الأزمة الاقتصادية الصارخة التي تجتاح أمريكا، خاصة مسألة ارتفاع الأسعار والتضخم وتآكل الأجور المستمر نتيجة الغلاء... وذلك لأسباب عدة أبرزها نفقات أمريكا الخارجية المتعلقة بالحروب والتي يتحمل وزرها المواطن الأمريكي.
2- التلاعب بالقيم التي وضعها الغرب كالديمقراطيات، وحقوق الإنسان والحريات حسب المصالح السياسية، فأمريكا تدافع عن أوكرانيا، وتتهم روسيا، وفي الوقت نفسه لا تتهم كيان يهود في اعتدائه على أهل فلسطين، وهذا تسبب بتشويه صورة أمريكا أولا أمام شعوب الأرض، وتشويه الفكر الرأسمالي الذي تعتنقه.
3- الأفعال المرعبة التي فعلها اليهود في غزة، وهي تفوق كل أعمال التنكيل على وجه الأرض في العصر الحديث، حتى إنها فاقت أعمال النازية والفاشية.
4- التصريحات المتطرفة من بعض الساسة ضد حق التظاهر ما وسع دائرة الاحتجاج مثل ما حصل من قول بايدن بمناسبة احتفالات الأعياد اليهودية: "إن معاداة السامية أمر يستحق الشجب، وليس له مكان في حرم الجامعات أو في أي مكان في بلادنا"، وأضاف: "ستواصل إدارتي تنفيذ استراتيجية وطنية لمكافحة معاداة السامية ووضع القوة الكاملة للحكومة الفيدرالية خلف حماية المجتمع اليهودي".
5- تدخلات حكومة يهود ضد الاحتجاجات، والتصريحات الصارخة من بعض الساسة اليهود ضدها خاصة نتنياهو ورئيس الموساد. ففي 26/4/2024 وجَّه جهاز الموساد تهديداً للمتظاهرين في الجامعات الأمريكية ضد الحرب على قطاع غزة. وأثار هذا التهديد زوبعة لدى الأوساط السياسية في أمريكا.
6- تأثير الشباب المسلم بين صفوف الأمريكان داخل الجامعات، خاصة أبناء الجالية الفلسطينية داخل الجامعات. فهناك الآلاف من أبناء فلسطين يدرسون في الجامعات، ويحملون هموم بلادهم إلى زملائهم، ومنهم طلاب من غزة استشهد آباؤهم أو أمهاتهم...
هذه بعض الأسباب الرئيسة التي نفخت في الجمر الكامن فأشعلته، ثم صبت عليه الزيت فازداد أوارا واشتعالا.
إن إدارة بايدن، والديمقراطيين والجمهوريين في الكونغرس، يحاولون طمس الحقيقة وتضليل الرأي العام، ولكنهم حتى الآن قد فشلوا، فالرأي العام يتصاعد ضد النخب السياسية وأعمالها وتخبطاتها.
لقد أصبحت هذه الاحتجاجات رأيا عاما في أمريكا ضد النخب السياسية، وأعمالها. وهذا الرأي يتصاعد يوما بعد يوم، وقد يصل إلى درجة الانفجار الشامل، ويضع عامة الناس أمام مواجهة حقيقية مع النخب السياسية لإسقاطها، كما حصل في بعض مناطق العالم، ومنها بلاد المسلمين؛ لأن النخب هذه تسير في تسخير البلاد والعباد لخدمة شركاتها ومصالحها على حساب الطبقة الفقيرة، وهذا يدركه الناس بشكل جيد.
ومع أن النخب السياسية المتحكمة بالقرار السياسي تحاول تضليل الرأي العام وحرفه عن وجهته الصحيحة، إلا أن محاولاتهم ما زالت فاشلة بسبب ما يلمسه الناس عمليا من فساد وكذب وتضليل خاصة في مسألة الحرب على غزة مقارنة مع ما يجري من تأييد ودعم لأوكرانيا في وجه روسيا.
إن هذه الاحتجاجات سيكون لها تأثير كبير على سياسة أمريكا تجاه الحرب على غزة للضغط على كيان يهود، وسيكون لها التأثير الأكبر أيضا على الدعاية الانتخابية، وحظوظ بايدن في النجاح. ويمكن أن تتطور مستقبلا لتكون شرارة تُشعل كل أطياف المجتمع الأمريكي ضد فساد الرأسمالية وانحرافاتها بشكل عام داخل المجتمع الأمريكي.
إن ما يهمنا كثيرا في هذا الأمر هو بُعد الشقّة بين طبقات الشعب وبين النخب السياسية سواء في أمريكا أو في أوروبا، لأن النخب تمثل جانب طبقة الواحد بالمئة من الشعب المتحكمة ببقية الناس، ولذلك تبقى الصدامات، ويبقى التشكيك في هذه النخب، وتبقى الاحتجاجات تتجدد بصور وأثواب جديدة. والأمر الثاني الذي يهمنا هو طريقة تعامل الغرب مع الفكر الغربي بطريقة براغماتية تُقدم المصالح على المبادئ والأفكار، وهذا ما يجري بالفعل في غزة وأوكرانيا.
إن هذه النظم لن يستقيم أمرها، وسيكون مصيرها كما سبقها من أفكار. وأمريكا على وجه الخصوص ستلحق بالاتحاد السوفياتي إن عاجلا أو آجلا، ولن يطول بها المقام، فهذه سنة الله في الذين خلوا من قبل وسنة الله في الفساد في كل زمان: ﴿اسْتِكْبَاراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾. وهذا يهيئ وجه الأرض لاستقبال المولود القادم (الإسلام) لينقذ الناس جميعا من شرور الفساد. وصدق الحق القائل: ﴿قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾.
رأيك في الموضوع