لقد طفت على السطح في الآونة الأخيرة خلافات ظاهرة بين توجهات الحكومة الأمريكية بقيادة الرئيس بايدن، وتوجهات حكومة يهود بقيادة رئيس الوزراء نتنياهو في موضوع استمرارية الحرب على غزة؛ من حيث طريقة التعامل، وأعداد الشهداء، وحجم الدمار والمأساة الإنسانية، خاصة في موضوع التشرد والجوع، وتوزيع المعونات الغذائية، وكذلك الأمور السياسية المطروحة مثل من يحكم غزة بعد الحرب وكيفية إنهاء الحرب وموضوع دخول رفح وموضوع دمج السلطة الفلسطينية وحركة حماس، كمقدمة لحل الدولتين... وغير ذلك من أمور عسكرية وسياسية. وقد وصل مستوى هذا الخلاف إلى حد اتهام نتنياهو بقيادة كيان يهود إلى الهاوية السياسية، وإلى جلب الدمار والشرخ الداخلي في داخل كيان يهود.
فقد صرح الرئيس الأمريكي بايدن في 9/4/2024 لشبكة يونيفيجين الأمريكية الناطقة بالإسبانية، عندما سئل عن طريقة تعامل نتنياهو مع الحرب: "أعتقد أن ما يفعله هو خطأ، أنا لا أتفق مع مقاربته"، وكرر بايدن خلال المقابلة بأن "مقتل سبعة عمال إغاثة الأسبوع الماضي بغارة (إسرائيلية) في غزة يعملون لصالح مؤسسة خيرية، تتخذ من الولايات المتحدة مقراً، كان فظيعا" وأضاف: "لذلك ما أدعو إليه أنا هو أن يدعو (الإسرائيليون) فقط إلى وقف لإطلاق النار، والسماح خلال الأسابيع الستة أو الثمانية المقبلة بالوصول الكامل لجميع المواد الغذائية والأدوية التي تدخل البلاد".
فما هي أبعاد هذه الخلافات الحاصلة، ولماذا حصل هذا التحول في سياسة بايدن؛ من التأييد الكامل والمطلق في بداية الحرب، لسياسات كيان يهود تجاه غزة، إلى الاتهام والدعوة لوقف الحرب، وأن عدم وقفها دمار وخراب على كيان يهود؟!
إن من أبرز الركائز التي يجب أن ننطلق منها في أية نظرة سياسية للغرب وأعماله وأقواله هي أن السياسة عندهم مبنية على تحقيق المصالح والغايات، ولا تنظر إلى المبادئ، وليس لديها أفكار ثابتة تنطلق منها، فهي مبنية على النظرة البراغماتية، وهذا ما يفسر التغيرات في الرأي السياسي أو حتى في الأعمال إلى القضية نفسها.
الأمر الثاني هو أن أمريكا تحافظ على كيان يهود واستمراريته، ضمن منظومة مصالحها، وليس خارج ذلك، فإذا قام كيان يهود بأعمال أو تصرفات تؤذي مصالح أمريكا فإنها تعمل على ضبط الأمور، وإرغامه على الرجوع إلى دائرة الطاعة، حتى لو اضطرها لاستخدام قوة التأديب أحيانا. وقد حصل ذلك في أكثر من مناسبة؛ كحرب سنة 73 مع مصر.
الأمر الثالث أن هناك دولا لا تقل أهمية عن اليهود (في رعاية مصالح أمريكا)، وخدمتها في تنفيذ مشاريعها كتركيا وإيران ومصر ومنظومة دول الخليج العربي... وهي تحافظ على هذه المنظومات من القلاقل والتغيرات.
الأمر الرابع أن موضوع الحرب على غزة تنظر إليه أمريكا كأي حدث سياسي آخر؛ من حيث جني الثمرة لصالح السياسة الأمريكية؛ سواء أكان بالتوجيه، أو بالردع أو بالتدخلات السياسية والعسكرية، أو بغير ذلك من أساليب. وقد بدأت أمريكا بالفعل العمل على جني الثمار، ووضع الخطط لما بعد غزة ولكنها تواجه عراقيل أشدها من جهة كيان يهود، وهناك أسباب كثيرة جعلت من هذه العراقيل اليهودية عقبة كأداء في وجه أمريكا ومشاريعها تجاه حرب غزة؛ منها على سبيل المثال لا الحصر التحول البيّن في الثقافة اليهودية تجاه ما يسمى في نظرهم بـ"أرض إسرائيل" (أرض الميعاد)، وقد حملت هذا الفكر أحزابٌ متشددة؛ تشكل أغلبية حكومة كيان يهود، وأصبحت بالفعل تشكل أغلبية الرأي السياسي في الكيان. ومنها أيضا الوضع السياسي الذي يعاني منه نتنياهو؛ من حيث الملاحقات القضائية، ومن حيث تحقيق أهداف الحرب التي وعد بها الشعب اليهودي، ومن حيث الالتزام بما وعد به الأحزاب الدينية بعدم تقديم التنازلات تجاه أية حلول سياسية تستهدف "أرض إسرائيل" حسب زعمهم.
من هذه المنطلقات والاعتبارات السياسية فإن أمريكا؛ سواء أكانت بقيادة الجمهوريين، أم الديمقراطيين فإنها تنظر لتحقيق مصالحها السياسية أولا، بغض النظر عما تكون النتائج، أو الأعمال لتحقيق النتائج، وقد رأيناها تقوم بأعمال أحيانا تُحدث أذىً لقسم من الشعب الأمريكي لتحقيق هذه المصالح، كما جرى في أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 وما تبعها من إعلان الحرب على أفغانستان والعراق سنة 2003.
هذا من جانب، والجانب الثاني الذي يجب أن ننظر إليه في هذا الموضوع هو التحول الحاصل من خلال أعمال كيان يهود في غزة وجرائمه المتكررة للمدنيين، سواء أكان ذلك بالقتل أو التجويع أو غير ذلك من فظائع ضج بها المجتمع الدولي والأمريكي، حتى داخل الكونغرس وعند عامة منظمات المجتمع المدني الأمريكي. وهذا الأمر أحدث تحولا في نظرة الأحزاب السياسية في أمريكا تجاه الحدث، وقد رأينا كيف أن ترامب أراد أن يركب الموجة السياسية لتحقيق مكاسب انتخابية، ولم يستطع أن يمضي في تأييده المطلق لأعمال اليهود كما كان في بداية الحرب.
أما التحولات الحاصلة عند بايدن تجاه الحرب على غزة فإنها تنطلق من أمرين: الأول هو قيادة دفة الحرب نحو مشاريع أمريكا في إيجاد الاستقرار السياسي والبدء بالمشاريع السياسية والاقتصادية، ومنها حل الدولتين وإيجاد التطبيع مع كافة دول المنطقة، والإبقاء على كيان يهود ضمن هذه المنظومة السياسية، ولا يزيد عن ذلك بحيث يضرب مصالح أمريكا. أما الأمر الثاني فهو استغلال الحدث في تحقيق مكسب انتخابي خاصة أن صورته تشوهت من خلال تقديم الدعم العسكري والمعنوي لكيان يهود في حربه القذرة التي شوهت سمعة أمريكا داخليا وخارجيا وصارت تشكل عبئا ثقيلا عليها.
من هذه الاعتبارات والمنطلقات فإن التحولات في أقوال بايدن تجاه الحرب، ووصفه اليهود وأعمالهم بالمتهورة، أو بأنها ضد مصالح كيان يهود أو غير ذلك مما بات يصرح به بايدن. وقد يتطور الأمر لدى بايدن وحكومته إلى أبعد من ذلك إذا أصرّ اليهود على العناد ومناكفة أمريكا والتأثير على مصالحها الحيوية في الشرق الأوسط. فقد يتطور الأمر إلى مستوى التأديب العسكري المضبوط عن طريق الدول المحيطة؛ من أجل إرغام الشعب اليهودي للخضوع، والامتثال لسياسة أمريكا وبرامجها في المنطقة وعدم التخريب عليها.
وفي المحصلة فإن ما تقوم به أمريكا، سواء في الأعمال السياسية أو العسكرية أو الضغوطات على اليهود، أو غير ذلك فإنه جميعا يصب في مصلحة اليهود وأمريكا؛ وعلى حساب قضايا ومقدرات أمة الإسلام. وإن السير في هذه المشاريع من قبل حكام المسلمين هو خيانة لله ولرسوله ولأمة الإسلام. فعلى الشعوب أن تعمل على إسقاط هذه الدول السائرة ضمن سياسات أمريكا وأعمالها؛ لخدمة أمريكا وكيان يهود، والوقوف في وجه الأمة وطموحاتها. وعليها كذلك أن توحد الأمة في دولة واحدة تحت راية واحدة، وتخلع هؤلاء الرويبضات من أدوات أمريكا المنفذين لسياساتها على حساب مقدرات الأمة ودمائها، وتتصدى لمشاريع الغرب، وتوقف النزيف في جسد الأمة جميعا، وتعلن الجهاد لخلع هذا الكيان الشرير المفسد لتخليص البشرية من فساده وشره: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.
رأيك في الموضوع