لقد أفرزت المرحلة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي سنة 1990 واقعا جديدا، أصبحت فيه أمريكا تهيمن على الموقف الدولي بلا منافس حقيقي فاعل، وما زال هذا الواقع حتى يومنا هذا، مع بعض التغيرات البسيطة التي اعترته، وللمحافظة على هذه المكانة العالمية العالية والمتقدمة أمام الدول الكبرى عملت أمريكا في اتجاهات وأصعدة عدة؛ سياسية واقتصادية وعسكرية، منها:
أولا: عملت على ترسيخ هيمنة عملتها الورقية على كل المعمورة، بما في ذلك الدول الكبرى، فاستمر الدولار الأمريكي على ما كان عليه؛ العملة العالمية التي تهيمن على النقد الدولي وترتبط به كل العملات، وتقوّم به عالميا، وبه تتم معظم العقود للسلع الحيوية خاصة البترول.
ثانيا: عملت طوال السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية على التفوق العسكري عبر تقنية السلاح النووي، وحرب النجوم، وإنشاء أكبر قدر من القواعد العسكرية في العالم، وإنشاء أكبر ترسانة عالمية كما ونوعاً، بما في ذلك حاملات الطائرات العملاقة والطائرات المتطورة تكنولوجياً والغواصات النووية وغير ذلك من أسلحة متطورة.
ثالثا: قامت بالسيطرة على مناطق نفوذ كبيرة في أنحاء العالم، بحيث توفّر لها هذه المناطق الأصدقاء المعاونين لهيمنتها، وتوفر لها الأسواق والمواد الخام، كمنطقة الشرق الأوسط، أو جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، أو تايوان أو غيرها.
رابعا: عملت عبر سنوات متتالية على إضعاف خصومها وتطويقهم؛ بحيث لا يقدرون على المنافسة الحقيقية، وأيضا لا يرتقون إلى مستوى التحدي لهذه الهيمنة وشبه التفرد الدولي. ومثال ذلك ما يجري في أوكرانيا، وفي تايوان وبحري الصين الجنوبي والشرقي حول الصين.
خامسا: قامت بالعمل باستمرار على تفوقها النوعي في مجالات التكنولوجيا، والهواتف الذكية، والوصلات الإلكترونية الحديثة، والرقائق الإلكترونية، وغير ذلك مما يدخل في مجال الذكاء الصناعي المتقدم والمتطور يوما بعد يوم.
والحقيقة أن أمريكا تعمل باستمرار داخل حدودها وخارجها من أجل التفوق التكنولوجي في كافة المجالات، خاصة وأن التكنولوجيا باتت تدرُّ أرباحا كبيرة في المجال الاقتصادي؛ ومثال ذلك الهاتف الذكي الذي لا تزيد تكلفته الحقيقية من مواد خام وأيد عاملة عن دولار واحد؛ حيث يباع بأكثر من ثلاثمائة دولار أو يزيد، حسب درجة التقنية الموجودة فيه. كما أن مجال الطب والأدوية والعلاجات التي تدخل فيها التكنولوجيا هو بابٌ واسع في الناحية الاقتصادية، هذا عدا عن المجال العسكري في الطائرات العملاقة والغواصات التي تستخدم الشرائح الإلكترونية والوصلات الذكية وغير ذلك من الذكاء الصناعي وغيره.
ولا نبالغ إن قلنا إن من يتفوق في المجال التكنولوجي اليوم يستطيع أن يتفوق في عدة جبهات اقتصادية وعسكرية، وأيضا في السيطرة على الخصوم وتحييدهم. لهذا السبب ولغيره فإن الصراع التكنولوجي اليوم على أشده وهو صراع محموم، وقد ظهر في أكثر من جبهة وساحة، لدرجة أنه وصل إلى حدّ الحرب المعلنة، والتهديد والتطويق، كما فعلت أمريكا في موضوع الرقائق الإلكترونية والوصلات مع الصين، ومع روسيا في حربها في أوكرانيا.
لقد أدى النمو الاقتصادي الأخير في الصين إلى تكثيف المنافسة الاستراتيجية بين واشنطن وبكين - منذ عام 2004 إلى عام 2018 - حيث تضاعف نصيب الصين من الناتج الإجمالي العالمي بأكثر من ثلاثة أضعاف، من 4.5% إلى 16.1%، في حين انخفضت حصة أمريكا من 27.9 % إلى 23.3%.
وتشير الاتجاهات الحالية إلى أن الإنفاق الدفاعي للصين يمكن أن يتجاوز إنفاق الولايات المتحدة بحلول ثلاثينات القرن الحالي، حيث تُرجمت القدرات الاقتصادية والعسكرية الجديدة للصين إلى زيادة تأكيدها مدى قدراتها في السياسة الخارجية، والمنافسة الدولية، ما زاد المخاوف الأمريكية بشأن ضعف النظام الدولي الذي تقوده أمريكا منفردة منذ سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991م، وتحوُّله إلى نظام "ثنائي القطبية" تتنافس على تحريكه كل من أمريكا والصين وروسيا وغيرها من الدول عبر تحالفات أو تكتلات.
وهناك نوع آخر من هذه المنافسة والحرب غير المعلنة وهو ما يتعلق بالحرب السيبرانية، وهي نوع من الحرب الخفية تتعلق بالنواحي الإلكترونية والحواسيب والبرامج، ولها مجالات ومخاطر عدة، لدرجة أنها تستطيع غزو بنوك عملاقة، أو مؤسسات حيوية، أو حتى مؤسسات عسكرية، كما أنها تستطيع إبطال بعض أنواع الأسلحة المتعلقة بالجانب التكنولوجي، كتعطيل الطائرات في الجو، أو السيطرة على الحواسيب في الغواصات، أو حاملات الطائرات، أو حتى الأسلحة النووية المتقدمة.
وفي عام 2021، أعلنت أفريل هاينز، مديرة الاستخبارات الوطنية الأمريكية، في جلسة للكونغرس، أن بكين "أصبحت أولوية لا تُضاهى بالنسبة لوكالات الاستخبارات الأمريكية. في الواقع أصبحت الصين منافساً شبه ندٍّ يتحدى الولايات المتحدة بصورة في العديد من المجالات، منها التكنولوجي والاتصالات". وفي تحذير مشترك، قالت مجموعة "العيون الخمسة" الاستخبارية، التي تضم الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة، وأستراليا ونيوزيلندا، إن هجمات مماثلة قد تحدث في جميع أنحاء العالم من خلال تطبيق الأساليب ذاتها. وفي بيان منفصل أكدت شركة مايكروسوفت أنها رصدت "نشاطاً سيبرانياً" تنفذه مجموعة صينية تتسلل لاختراق شبكات البنية التحتية الحيوية في الولايات المتحدة. وفي إعلان نادر عن اختراق الأنظمة، قالت مجموعة التكنولوجيا الأمريكية: إن المتسللين، عمدوا منذ منتصف عام 2021 على استهدف البنية التحتية الحيوية في جزيرة غوام الأمريكية، وهي قاعدة عسكرية أمريكية تحظى بأهمية استراتيجية في المحيط الهادي!
لقد عملت أمريكا باستمرار على حرمان روسيا، خاصة في الحرب الأوكرانية، من الرقائق الإلكترونية المستخدمة في الأسلحة الإلكترونية المتقدمة كالصواريخ الذكية والطائرات المتقدمة، أو غير ذلك. وقد رأينا كيف وضعت أمريكا كلّ جهودها في هذه الغاية، وقد نجحت إلى حد ما. وعملت كذلك على منافسة الصين في هذا المجال، فقد ذكرت صحيفة ليبراسيون الفرنسية في تقريرين منفصلين، كيف أصبحت لوحة السليكون الرفيعة التي نقشت عليها الدوائر، ودمجت المكونات الإلكترونية، مسرحا لمنافسات استراتيجية كبرى ومعارك تجارية هائلة، وكيف أصبح استيراد الإلكترونيات الدقيقة الغربية أكثر تعقيدا وأكثر تكلفة بكثير، وأقل موثوقية من حيث الجودة بالنسبة لصناعات الدفاع الروسية التي لا تنتج هذه المواد.
والحقيقة أن الصراع على تايوان بالتحديد له ارتباط وثيق بهذا الأمر، أي أن من أحد أسبابه السيطرة على التكنولوجيا المتقدمة، وحرمان الصين منها وتطويقها حتى لا تستفيد منها، خاصة في مجال الرقائق والوصلات المتناهية الدقة... ولعل أبرز الأمثلة على ذلك القيود التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في حزيران 2020 على شركات أشباه الموصلات الخارجية التي تستخدم التكنولوجيا والمعدات الأمريكية، وحظر تصديرها إلى شركة هواوي الصينية، وعلى رأس تلك الشركات المطالَبة بالالتزام بالحظر شركة تصنيع أشباه الموصلات التايوانية "تي إس إم سي" المورد الرئيسي لهواوي، في مجال الرقائق المتطورة، ما وضع الأخيرة في وضع تنافسي صعب في سوق الهواتف الذكية ومعدات الشبكات. وحاليا فإن تايوان تمثل نحو 92% من الإنتاج العالمي لصناعة أشباه الموصلات بدقة أقل من 10 نانومترات، ما يجعلها المزود الرئيسي للغالبية العظمى من الرقائق التي تشغل أكثر الأجهزة تقدما في العالم، بدءا من هواتف آيفون لشركة آبل، وحتى الطائرات المقاتلة إف-35، وتعتبر شركة "تي إس إم سي" الأولى في العالم بهذا المجال.
إن ما يجري من تنافس وتطاحن بين الدول الكبرى ليس الهدف منه خدمة البشرية، وإنما السيطرة على العالم وطمس الخصوم لإبقاء الهيمنة والتفرد الدولي. وهذا يقود إلى مزيد من الصراعات الدولية والحروب العلنية والخفية كالحرب السيبرانية، والحرب التجارية وحرب السيطرة على التكنولوجيا. وهذا هو نهج دول الغرب الكافرة.
وستظل البشرية في قلق وخصام، وتنافس هابط، حتى تشرق على الأرض شمس الإسلام الوضاءة التي تملا الأرض بعدلها ودفئها، وتخلص البشر من شرور الرأسمالية البغيضة. ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ * وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ * أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾.
رأيك في الموضوع