في مقال نشرته المنظمة الصحفية الدولية بروجيكت سنديكيت تحت عنوان (الصراع داخل البيت الأمريكي) بتاريخ 4 كانون الأول/ديسمبر 2021 للكاتب والاقتصادي الأمريكي المشهور البروفيسور جيفري د. ساكس، جاء فيه: "ليس من السهل تشخيص الـعِـلة التي توجع أمريكا في الصميم؛ أهي الحروب الثقافية المتواصلة التي تقسم أمريكا على أساس الـعِـرق والدين والأيديولوجية؟ أهي فجوة التفاوت في الثروة والسلطة التي اتسعت إلى مستويات غير مسبوقة؟ أهي قوة أمريكا العالمية المتضائلة، مع صعود الصين، والكوارث المتكررة التي أحدثتها حروب الاختيار التي قادتها الولايات المتحدة؛ والتي أدت إلى المعاناة والإحباط والارتباك على المستوى الوطني؟ كل هذه العوامل تساهم في السياسة الأمريكية المضطربة". ثم يتابع ويخلص إلى النتيجة فيقول: "لقد أصبحت الولايات المتحدة دولة أثرياء؛ يحكمها أثرياء لصالح الأثرياء".
إن هذه الحقيقة التي رسمها وشخصها هذا الكاتب لواقع أمريكا من التنافس والصراع المحموم بين الحزبين الكبيرين في أمريكا، قد ذكرها العشرات من الكتاب والسياسيين والمفكرين، ولها مظاهر عديدة تتسع وتتجدّد مع مرور الوقت، ولعل أبرزها الصراع المحتدم هذه الأيام بين شركات الطاقة التي يسيطر عليها الجمهوريون، ومركزها في تكساس؛ مثل شركات البترول الكبرى، وبين شركات التكنولوجيا التي يسيطر عليها الديمقراطيون ومركزها في وادي السيليكون في كاليفورنيا. ولا نريد أن نفصل في مظاهر هذا الصراع والتنافس، فهو أمرٌ بات مشتهرا في الولايات المتحدة، ولكن نريد أن نقف على بعض الحقائق المرتبطة بهذا الموضوع من الصراع والتنافس المحموم والمتنامي؛ منها: 1- أثر هذه الشركات في الانقسام الأمريكي الحاصل اليوم. 2- موقف الحزبين الكبيرين من هذه الشركات، وتأثير الدعم في سياساتها، ودور هذه الشركات في السياسة المحلية والعالمية. 3- الانقسام الأمريكي بسبب هذا التنافس وإمكانية توسعه وخطورته.
أما الأمر الأول، وهو تأثير هذه الشركات في الانقسام الحاصل في أمريكا اليوم: فإن المدقق في واقع النظام الرأسمالي بشكل عام، ومنذ تأسيسه، يرى أن الذي يتحكم به هم طبقة الواحد بالمئة، فهم من يصل إلى الحكم، وهم من يسيطرون على مفاصل الاقتصاد في البلاد وعلى الشركات الكبرى، وهم من يسيطرون على مؤسسات الدولة السياسية والاقتصادية؛ وبالتالي فهم من يضعون الدستور والقوانين المتعلقة بالداخل والخارج، ومن يرسمون ويقررون الميزانيات، وهم من يقررون سياسة الحرب والسلم في السياسة الخارجية. وبما أنه لا يصل إلى الحكم إلا أصحاب هذه الشركات الكبرى فليس غريبا أن يكون الصراع محتدما بينها لفرض أسباب القوة والسيطرة؛ من أجل الوصول إلى الحكم أولا، والاستمرارية فيه ثانيا. فشركات الطاقة وشركات التكنولوجيا قد أصبحت جزءا من القرار السياسي في أمريكا بسبب ارتباطها بالحزبين الكبيرين، وبالتالي فهي تغذي الانقسام الحاصل اليوم بين هذين الحزبين. يقول الخبير الاقتصادي عبد الغني الكباج، في مقال نشره موقع "الاقتصادي لكم"، بتاريخ 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2020: "تسيطر الشركات الرأسمالية الكبرى على الاقتصاد والسياسة والمجتمع في أمريكا، ويتم استلاب الشعب الأمريكي، وتتجسد ممارسة سلطة المال والشركات الرأسمالية الكبرى في المجتمع الأمريكي... ويتم إقصاء كل فكر ووعي راديكالي، وتهميشه في المجتمع. ويتم كذلك تشجيع النزعات الرأسمالية اليمينية، وإخضاع الدين المسيحي للرأسمال، وتهميش الحركات الاجتماعية التقدمية التي تناهض سيطرة الرأسمال في حياة الأمريكيين".
وقد امتد هذا المظهر التنافسي إلى بذر بذور الفتن والشقاق والنزاع في المجتمع الأمريكي ما بعد فترة الانتخابات التي أعقبت فوز بايدن على ترامب، واتهام ترامب بتزوير الانتخابات، وإقصائه من الفوز.
أما ما يتعلق بالأمر الثاني؛ وهو موقف الحزبين الكبيرين من هذه الشركات، وتأثير الدعم في سياساتها، ودور هذه الشركات في السياسة المحلية والعالمية: فلا يخفى أيضا التأثير الكبير لهذه الشركات في السياسة الداخلية والخارجية؛ ففي السياسة الداخلية سعت الحكومة الأمريكية في الأزمة الاقتصادية التي حصلت سنة 2008 إلى تسخير طاقات الشعب ومكتسباته المالية في سبيل إنقاذ الشركات الكبرى من الإفلاس والانهيار، ووضعت أموال الضرائب لخدمة هذه الشركات. وكذلك سعت الإدارة الأمريكية للمحافظة على الدولار من الانخفاض للمحافظة على مكتسبات هذه الشركات؛ حتى لا تفقد جزءاً منها، فخفضت أسعار الربا عدة مرات لرفع سعر الدولار؛ ما تسبب بكوارث اقتصادية على الشعب الأمريكي منها: ازدياد وارتفاع سلم التضخم، وتآكل الأجور وارتفاع الأسعار. أما السياسة الخارجية وتأثير هذه الشركات في رسمها فإن الحروب التي خاضتها أمريكا في الخارج إنما هي لخدمة هذه الشركات رغم تحمل البلاد تريليونات الدولارات بسببها. فالحرب على أفغانستان والعراق كانت الأسباب الرئيسة لها السيطرة على الأسواق والمواد الخام لصالح هذه الشركات. تقول الباحثة ليندا بليمز في صحيفة الغارديان 25 أيلول/سبتمبر 2021 في مقال بعنوان: (أين ذهبت الـ5 تريليون دولار التي أنفقت في حربي أفغانستان والعراق؟): "في العام الماضي، في حزيران/يونيو 2020، استحوذت الشركات الخمس الكبرى على ما يقرب من ثلث مبلغ 480 مليار دولار الذي التزم به البنتاغون لمقاولي الدفاع. في حين إن جزءاً بسيطاً فقط من هذه المبيعات كان مخصصاً للعراق وأفغانستان. تنافسية كانت مربحة للغاية لجميع مقاولي الدفاع الرئيسيين. فعلى سبيل المثال، قامت شركة لوكهيد مارتن بتصنيع مروحيات بلاك هوك المستخدمة على نطاق واسع في أفغانستان. بوينغ نجحت في بيع الطائرات والمركبات القتالية البرية. وشركة رايثيون فازت بالعقد الرئيسي لتدريب القوات الجوية الأفغانية. أما نورثروب جرومان وجنرال دايناميكس فقد كانتا المسؤولتين على تزويد القوات العسكرية بالمعدات الإلكترونية ومعدات الاتصالات".
وقد برز موضوع التنافس وتأثيره في السياسة الأمريكية الخارجية واضحا جليا في مسألة طلب حكومة بايدن من السعودية عدم تخفيض إنتاج البترول سنة 2022 حتى لا ترتفع الأسعار في أمريكا ويؤثر ذلك على الناخب الأمريكي لانتخابات الكونغرس، لكن السعودية رفضت الطلب وخفضت الإنتاج بسبب اتصالات بينها وبين الحزب الجمهوري، فارتفعت أسعار النفط في أمريكا، وبالفعل أثرت على الناخب الأمريكي. حتى إن موضوع الصراع الحاصل اليوم بين أمريكا والصين له ارتباط بين شركات التكنولوجيا في أمريكا والصين، ولا يخفى ما يجره هذا الصراع من أخطار بسبب هذا التنافس.
ونصل إلى النقطة الثالثة في هذا الموضوع وهي الانقسام الأمريكي بسبب هذا التنافس وإمكانية توسعه وخطورته: فالحقيقة أن موضوع الانقسام والتنافس ومخاطره مرتبط بشكل مباشر بالشركات الكبرى، وإن موضوع هذا الصراع والانشقاق والصدع داخل المجتمع الأمريكي يتسع يوما بعد يوم. فكلا الحزبين يمثل قسما من هذه الشركات كما ذكرنا في النقطة الأولى، ولذلك فهي تسعى جاهدة للفوز في الانتخابات؛ من أجل خدمة هذه الشركات أثناء فترة حكمها.
وفي الختام نقول: إن ما يجري في أمريكا اليوم من تنافس شديد وصل إلى درجة الاتهامات بالتزوير، وإلى درجة التهديد بشق المجتمع الأمريكي إلى نصفين، وإلى التهديد بانفصال ولايات عن الاتحاد، كل ذلك هو لخدمة هذه الشركات، ولا يمت بصلة إلى خدمة الشعب الأمريكي، وهذا الأمر يقودنا للحقيقة الساطعة وهي أن النظام الرأسمالي ينظر إلى خدمة أصحاب رؤوس الأموال على حساب الشعب، وهذا بعكس النظام الرباني الذي يسخر كل الطاقات والقدرات لخدمة عامة الناس، ولا يجعل لأصحاب المال والشركات أية مكانة في السيطرة والحكم والتحكم؛ إنما الحكم هو للأصلح أولا، وثانيا مرتبط بأحكام لا يمكن تجييرها ولا تحويرها لصالح أحد على حساب أحد. وصدق الحق القائل: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾.
رأيك في الموضوع