إن الحلم الأمريكي والاستراتيجية التي وضعتها أمريكا منذ الحرب العراقية الإيرانية، هو إخراج النفوذ البريطاني من العراق والسيطرة على منابع النفط والمياه الدافئة، وما أعقبها من استغلال دخول العراق للكويت وقيادة تحالف لإخراج القوات العراقية منها، وفرض الحصار، وفرض منطقة الحظر شمالاً من خط العرض 36 وجنوباً حتى خط العرض 32، إلى أن تهيأ لها احتلال العراق عام 2003م، وفرض نظامها ودستورها، وإخراج النفوذ البريطاني منها.
ومن الاستراتيجية الأمريكية العامة في العالم والهادفة إلى حماية مصالحها، إيجاد القواعد العسكرية. وبلا شك أن القواعد العسكرية ليست ذات طابع عسكري أمني فحسب، وإنما فيها من البعد السياسي والاستخباراتي. ومن القواعد الأمريكية المهمة خاصة في الوقت الحالي، هي القواعد الموجودة في الشرق الأوسط ومنه العراق، خاصة وأن المنطقة تغلي بسبب عدوان كيان يهود على غزة الأبية، بل وتزيد من وجودها بوصول البوارج الحربية إلى المنطقة.
والمتابع يرى بوضوح أنه ليست هناك نية عند أمريكا للخروج من العراق، فقد أثير هذا الملف في شهر تموز 2020م عقب اغتيال أمريكا في عهد ترامب قاسم سليماني وأبا مهدي المهندس في 2/1/2020م، وبعدها بأيام قليلة قرر البرلمان العراقي إخراج قوات التحالف من العراق، ومنذ ذلك الحين ولغاية الآن، لم تصل المفاوضات إلى نتيجة، وكل الذي حصل هو إعادة التموضع والاستقرار في قاعدتين هما "عين الأسد" في الأنبار، و"حرير" في أربيل.
لذلك نقول إنه ليس في حسابات أمريكا أية بوادر للخروج من العراق، وكل ما تفعله عبر المفاوضات مع حكام العراق هو تقنين وجودها، كما فعلت بعد قرار خروجها عام 2011م وكان ينظر إليها أنها قوات غازية، عادت إلى البلد بدعوة واستغاثة من الحكومة العراقية، بعد السماح لتنظيم الدولة وتمكينه من السيطرة على ما يقارب ثلث العراق، على أنها قوات صديقة ومحررة.
هذا ما نراه من استقراء واقع هذا الملف، فقد مضت أكثر من أربع سنوات على المفاوضات ولم يتحقق شيء مما تدعيه الحكومة العراقية من إصرار على إنهاء وجود قوات التحالف، والدليل ما صرحت به الخارجية العراقية من خلال بيان لها، الخميس الموافق 15/8/2024م، "بأن بغداد تعلن تأجيل موعد إعلان انتهاء مهمة التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بسبب التطورات الأخيرة"، لكن الوزارة لم تحدد هذه التطورات.
هذا فيما يخص أمريكا، أما فيما يخص العراق وخاصة الأحزاب السياسية، فإنهم متفقون على بقاء قوات التحالف؛ إما صراحة كالأحزاب الكردية وبعض الأحزاب السنية، أو مراوغة كالأحزاب الشيعية وبعض الأحزاب السنية. فالإطار التنسيقي الحاكم، وهو الناطق باسم الحكومة العراقية من خلال مرشحها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ليس جادا فيما يطلق من تصريحات نارية متكررة بضرورة خروج قوات التحالف، فهو يؤيد ما يقوم به السوداني من مفاوضات لا تسمن ولا تغني من جوع، وأخيرا إعلان الخارجية العراقية تأجيل موعد انتهاء مهمة التحالف، مع أن الإعلام العراقي دائما ما يصور أن الشيعة يسعون لإخراج القوات الأجنبية وهذا ما يعارضه السنة والكرد.
فمن الذي يضغط على الحكومة العراقية ودفعها إلى مراوغة المفاوضات إذا كان هذا حال الأحزاب السياسية العراقية؟ والحقيقة المشاهدة في أرض الواقع أن مواقف الأطراف الموالية لإيران ظاهريا لا تبدو متطابقة، ففي حين تدعو أطراف "الإطار التنسيقي" الداخلة في الحكومة إلى إعطاء فرصة للمفاوضات، تصر أجنحة مسلحة على مواصلة التصعيد على الوجود الأمريكي، وهذا ما أشار إليه الباحث والأكاديمي في جامعة أريزونا سليم سوزة من انقسام واضح داخل أروقة "الإطار التنسيقي للقوى الشيعية"، يتمثل بـ"رغبة الجزء غير الممثل بالحكومة العراقية بإخراج القوات وربما حتى قطع أي علاقات دبلوماسية مع واشنطن"، في حين تدرك الأطراف الأخرى الداخلة في الحكومة "العواقب السياسية والاقتصادية والأمنية في حال دفع واشنطن إلى الانسحاب من العراق". ويضيف أن خروج القوات الأمريكية يعني دخول العراق في "قائمة أعداء واشنطن" وهو ما قد يحرم البلاد من "الأموال التي لا تزال تذهب نحو البنك الفيدرالي الأمريكي"، مردفاً أن الإشكالات لن تتوقف عند هذا الحد، إذ سيخسر العراق "التعاون والتدريب وتبادل المعلومات الأمنية بخصوص الإرهاب". ويلفت سوزة إلى أن حكومة السوداني كانت تحاول خلال الفترة الماضية "امتصاص نقمة البعض من خلال نشر أخبار تتعلق بإخراج القوات الأمريكية من البلاد"، مبيناً أن تلك الأطراف "غير جادة في الدفع نحو انسحاب أمريكي من البلاد".
وخلاصة القول: إن خروج القوات الأمريكية من العراق أمر مستبعد خاصة في مثل هذا الواقع الذي يعيشه العراق، فأمريكا ليس لها مزاحم على نفوذها فيه، وحتى هذه الضربة الأخيرة على قاعدة عين الأسد والتي أعلنت أمريكا إصابة جنود لها، عليها أكثر من علامة استفهام، لأنها تصب في مصلحة أمريكا؛ فقد أعلن مستشار رئيس الوزراء العراقي ضياء الناصري، أن "استهداف قاعدة عين الأسد والتطورات الأمنية التي حصلت في الأسبوع الأول من شهر آب الماضي، أجل الإعلان عن انتهاء مهمة التحالف الدولي في العراق، لحين إعادة تقييم الوضع الحالي ومعرفة الجهة التي تقف وراء الاستهداف، هل هي بالفعل جهة تابعة للفصائل أم جهة جديدة؟".
وفي السادس من آب/أغسطس، أعلنت جماعة "الثوريون"، وهي تشكيل غير معروف ضمن فصائل المقاومة الإسلامية في العراق، مسؤوليتها عن الهجوم الصاروخي على قاعدة عين الأسد في محافظة الأنبار.
فخروج قوات التحالف لا يمكن أن يتم في مثل هذا الوضع الراهن، ولا تستطيعه إلا دولة مبدئية، ذات سيادة، ولدت من رحم الأمة، وعقيدتها الإسلامية.
بقلم: الأستاذ أحمد الطائي – ولاية العراق
رأيك في الموضوع