النصر لغة: الإعانة، جاء في لسان العرب: نَصَرَ المَظْلومَ نَصْراً ونُصوراً: أعانَهُ، ونَصَرَ الغَيْثُ الأرضَ: عَمَّها بالجَوْد، ويقابله الهزيمة، والانْكِسار والانْدِحار والإِخْفاق والاسْتِسْلام والانغلاب والانهزام والخسران والخيبة والرسوب والفشل. والنصر اصطلاحا: الغلبة والتفوق وقهر العدو والظهور عليه. والنصر كلمة جميلة، وجرسها الصوتي محبب إلى النفوس، لأنها تعطي الراحة والطمأنينة، بخلاف الهزيمة فهي كلمة قبيحة، وجرسها الصوتي مزعج للنفوس، إذ فيه الذل والمسكنة والفقر وظهور العدو. فالنصر هو الفوز على الخصم، وشرعا الفوز على الأعداء في المعارك والحروب. وينحصر استعماله في وصف حال المسلمين إذا تغلبوا على عدوهم في ساحة القتال في سبيل الله مقبلين غير مدبرين، وأكثر ما يستعمل في جهاد الطلب. قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾، وقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾، في إشارة واضحة إلى أن على المسلمين أن يقوموا بفعاليات معينة وفق أوامر الله ونواهيه، كي يمن الله عليهم بالنصر وتثبيت الأقدام.
هذا وإن سبب النصر الوحيد هو الله عز وجل، حصرا وقصرا، لقوله تعالى: ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾. وقد ربط النصر بالعزة وبالحكمة لأنه سبحانه وتعالى ينزل النصر بحكمته، ويعطيه لمن يستحقه بعزته. ووردت كلمة النصر في القرآن الكريم في عشرات المواضع، تؤكد جميعها بأن مقاليد النصر بيده سبحانه، ومنها: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾، وقوله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ﴾، ثم وردت آيات أخرى تحرم النصر على الكافرين والمنافقين والمعتدين والظالمين، ﴿وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ﴾، ﴿وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ﴾، ﴿وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ﴾. وكذلك مُنع النصر عن المؤمنين إذا أخلوا بشروطه، وخصوصا إذا ركنوا إلى الذين ظلموا، لقوله عز وجل: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾.
والنصر له أسباب وله مقومات واستحقاقات، فسببه هو الله، والنصر بيده وحده، ونتائجه مربوطة بأن يكون المنصور مؤمنا، وأن نتائج النصر الذي ينزله الله على المؤمنين تكون منحة منه سبحانه لالتزامهم باستحقاقاته فلا يظلمون ولا يخالفون. وعلى المؤمنين أن يقوموا بنصر الله، وهذا لا يتأتى بالمعنى الحقيقي، بل لا بد أن يصرف إلى المعنى المجازي بأن يقوموا بالتكاليف الشرعية كاملة، وأن يعدوا العدة المناسبة، كما قال سبحانه: ﴿وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لَأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً﴾. فإذا رأى الله من المؤمنين إخلاصا والتزاما وإعدادا فإنه سبحانه وتعالى ينزل النصر عليهم وقتما يشاء وكيفما شاء.
وأما مقوماته فاستحضار عظمة الله سبحانه والثقة بأنه هو الناصر، والإعداد اللازم وفق أقصى الاستطاعة، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ﴾، وفي هذا إشارة واضحة إلى أن للنصر فعاليتين: الأولى غلبة المؤمنين، والثانية هزيمة الكافرين.
وقبل البحث في واقع المسلمين اليوم، وبيان كيفية الخروج من هذا المأزق العظيم، لا بد لنا من التفريق بين قضيتي النصر والاستخلاف، فالنصر هو قهر العدو في ساحة الوغى، والاستخلاف هو انتهاء حالة الاستضعاف لدى المسلمين بسبب غياب دولتهم، ولذلك فاستحقاقات النصر تختلف عن استحقاقات الاستخلاف. أما استحقاقات النصر فتكون كما أسلفت بإعداد ما يلزم لخوض غمرات الحرب ضد الكفار، وأما استحقاقات الاستخلاف فتكمن في القيام بالأعمال الدعوية (الفكرية والسياسية) وخوض غمرات العمل السياسي ضد الحكام الغاصبين لسلطان المسلمين، واسترداد ذلك المغصوب بقيام دولة الإسلام والمسلمين التي تطبق الشريعة الغراء في الداخل والخارج. وهذا الاستخلاف وإن أطلق عليه مجازا أنه نصر، ولكنه في الحقيقة مقدمة للنصر وشرط ضروري لحصوله، أي أن المسلمين إذا استردوا سلطانهم المغصوب، وقامت دولتهم، وبدأت بحمل الدعوة عن طريق الجهاد في سبيل الله، فإنهم يقاتلون العدو وقتئذ وينتصرون عليه بإذن الله مهما كانت إمكانياتهم مصداقا لقوله تعالى: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
وأما التوصيف الدقيق لحال المسلمين اليوم، وما هم فيه من الهزيمة، والعمل الصحيح للخروج من الاستضعاف إلى الاستخلاف، فإنه يتلخص في فهم واقع المسلمين السياسي والاجتماعي والاقتصادي والجغرافي وغيره، والبحث عن الدليل المناسب من الكتاب والسنة لعلاج هذا الواقع، ثم تطبيق أحدهما على الآخر. وهذا يقتضي تتبع أحوال المسلمين بدقة، وخوض غمرات العمل الفكري والسياسي كما خاضها النبي ﷺ في مكة في منظومة متكاملة من الأقوال والأعمال بدءاً من قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ﴾، ووصولا إلى بيعة العقبة الثانية وقرار الهجرة إلى يثرب لإقامة الدولة بعد أن التحمت الدعوة مع المنعة. وهذا يستلزم السير على خطا الحبيب محمد ﷺ في مكة حيث بدأت الدعوة ورسمت معالم العمل الفكري والسياسي بشكل واضح جلي، من خلال تكتل الصحابة الكرام على رأسهم النبي ﷺ، وكيف أنهم زلزلوا عقائد المشركين وعابوا آلهتهم وسفهوا أحلامهم، وانتقدوا أنظمتهم الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، وقدموا لهم البدائل الصحيحة لتلكم العقائد والأنظمة الفاسدة.
ولما وصل الأمر إلى تجمد الدعوة في مكة، كان لا بد من الخروج خارجها طلبا للتأييد والحماية والمنعة من قادة القبائل، ومع أنهم أبوا جميعهم أن يفعلوا ذلك، وأراد الله إعزاز دينه وإظهار دعوة نبيه، قيض له النفر اليثربيين الذين جاءوا إلى مكة يلتمسون الحلف من قريش على بعض أقوامهم، فكانت النافذة التي دخل منها النبي ﷺ إلى نقطة الارتكاز في يثرب، فأرسل مصعب بن عمير رضي الله عنه إليها ليصهرها فكريا وسياسيا بالإسلام، وليكسب أولي القوة فيهم، ليتولوا بعد ذلك القيام بما يلزم لتأييد وحماية النبي ﷺ وصحبه بالقوة اللازمة لفرض الحكم بالإسلام في المدينة، وإقامة أول دولة للمسلمين فيها.
ولما قامت الدولة الإسلامية الأولى واستقرت، عملت في وقت قياسي على ضرب أعدائها الكفار ضربات تنسيهم وساوس الشيطان، بدءاً ببدر ومرورا بأحد والغزوات الكثيرة، ثم صلح الحديبية، ثم فتح مكة، لينتهي كيان قريش، ويضم إلى دولة الإسلام كولاية من ولاياتها، دون أن تُذرف عليه دمعة واحدة من أحد، إذ كان يترنح آيلا للسقوط، وهو ما نأمل حصوله اليوم مع كيانات دويلات الضرار الغاصبة لسلطان المسلمين، ومن ورائها دول الغرب والشرق المتغطرسة، والتي تترنح بانتظار من يسقطها، وستكون الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة هي الفارس المنتظر لإسقاطها. ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً﴾.
رأيك في الموضوع