قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾. قال الطبري: "وإن حزبنا وأهل ولايتنا لهم الغالبون، يقول: لهم الظفر والفلاح على أهل الكفر بنا، والخلاف علينا". أهـ. وهذا يعني أنه لا نصر إلا بالجند، ولا تغيير إلا بالجيوش.
وإننا اليوم نتوق إلى التغيير، بعد أن هدمت خلافتنا قبل أكثر من قرن من الزمان، ومللنا الهزيمة والمذلة والاستكانة ونهب الثروات وإيذاء العباد واقتطاع البلاد واحتلالها وتدنيس المقدسات، فلا بد لنا من التغيير. والتغيير سنة وضعها الله سبحانه وتعالى في الكون، وجعل لها ضوابط ومكونات وعناصر، وهكذا كل شيء إذا أردت أن تجني منه الفائدة، فلا بد من استكمال عناصره. فالمركبات المادية المستخدمة في مجالات الحياة جميعا لها عناصر ومكونات، وكذلك الطعام في المطبخ له عناصر ومكونات حتى يكون جاهزا للأكل، فإذا غاب واحد من عناصره لا تكتمل فائدته، وبالتالي لا يكون مستساغا. وكذلك هي عملية التغيير التي رسم النبي ﷺ لنا معالمها عندما بدأ بها في مكة من قوله تعالى ﴿اقْرَأْ﴾، وكان يجمع الصحابة الكرام سراً في دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنهم أجمعين، ويفقههم في دين الله، وهو التعليم الذي يعتبر مكونا أساسيا وعنصرا مهما من عناصر التغيير. ومرورا بدعوة المقربين من أهل البيت والعشيرة والأصدقاء وهو عنصر الاتصال الفردي بالناس، ثم انتقل إلى المرحلة العلنية وإشاعة الفكرة بين الناس ونشرها على أوسع نطاق ممكن، وهو ما يسمى بعملية التفاعل وإيجاد الرأي العام والاتصال الجماعي بالناس وخطاب الجماهير، حيث أعلن ﷺ دعوة الإسلام، وذلك من خلال صف المسلمين صفين حول الكعبة، وجعل على رأس كل صف رجلا من البارزين المرموقين والمؤثرين في محيطهم؛ الأول حمزة بن عبد المطلب والثاني عمر بن الخطاب، وطافوا طوافا مخصوصا لافتا للنظر، ووُجد بذلك عنصر مؤثر من عناصر معادلة التغيير وهو العملية الصهرية. ثم بدأ النبي ﷺ بعد ذلك بمخاطبة القادة والزعماء في قريش وما حولها من القبائل من أجل كسب تأييدهم للحماية والنصرة لدعوته، وكرر ذلك أكثر من عشرين مرة، كي يجد له أنصارا فتلتحم الدعوة الإسلامية مع منعة مؤمنة، تكون قادرة على حماية الدعوة ورجالها، وتطبيق شريعتها في مكان يكون مناسبا لإقامة الدولة الإسلامية الأولى في التاريخ.
ولم يكن الأمر (الإسلام) ليتم حتى يتوفر هذا العنصر الذي ظل غائبا عن العملية التغييرية ثلاثة عشر عاما، منذ كلمة (إقرأ) حتى تمت بيعة العقبة الثانية في منى بين النبي ﷺ ونقباء الخزرج، وأذن الله للمسلمين بعدها بالهجرة إلى المدينة المنورة لإقامة الدولة الإسلامية فيها، بعد أن وجد هذا العنصر الحاسم في معادلة التغيير، طبعا بعد توافر العناصر الأخرى كالكتلة العاملة، والثقافة والتعليم، وخوض غمرات العملية الصهرية (الصراع الفكري والكفاح السياسي) في المجتمع، والصبر على الأذى واللأواء، والثبات على العقيدة وما ينبثق عنها من أفكار ومفاهيم، وإخلاص النية لله عز وجل، ورفض المساومات والمغريات، والثقة التامة بأن الله سينصر دينه ويستخلف حملة دعوته في الأرض، ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، ويبدلهم من بعد خوفهم أمنا.
والمعضلة اليوم في عملية التغيير هي هذا العنصر الغائب حتى الآن، وهو نصرة جيش من جيوش المسلمين الكثيرة لدعوة الإسلام التي توافرت فيها عناصر التغيير جميعا، وما بقي إلا أن تلتحم الدعوة مع المنعة فتقوم دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة في إحدى البلاد الإسلامية، وبعدها تقوم دولة الخلافة بضم باقي الأقطار إلى كيانها الجديد، وتوحد جيوش المسلمين، وتبدأ بحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم أجمع بالدعوة والجهاد في سبيل الله بمراحله الثلاث: الدعوة إلى الإسلام ثم طلب الجزية ممن يرفضون الدخول في دين الله، ثم الاستعانة بالله وقتالهم إن هم أبوا الإسلام والجزية، عملا بحديث النبي ﷺ الذي رواه مسلم وغيره من أصحاب السنن عن بريدة بن الحصيب الأسلمي قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَمَّرَ أَمِيراً عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْراً، ثُمَّ قَالَ: اغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا وَلَا تَمْثُلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيداً، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلَالٍ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ؛ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ. فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ. فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ. وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلَا تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ نَبِيِّهِ وَلَكِنْ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا». قَالَ عَلْقَمَةُ فَحَدَّثْتُ بِهِ مُقَاتِلَ بْنَ حَيَّانَ فَقَالَ حَدَّثَنِي مُسْلِمُ بْنُ هَيْصَمٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ نَحْوَهُ.
وهذا الحديث صريح بأن الاستخلاف والتمكين والأمن لا يتم إلا بنصرة الجيوش للعاملين، وأن حمل دعوة الإسلام إلى العالمين لا يتم إلا تحت ظلال السيوف وتوافر الجند القادرين على إرهاب العدو ومن خلفه، ويجب أن يكون هذا واضحا في أذهان جيوش المسلمين والعلماء المسلمين والنخب والحركات الإسلامية والعوام على أوسع نطاق ممكن. ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
رأيك في الموضوع