قال سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾. هذه الآية الكريمة بيان لأهم واجبات الحاكم المسلم تجاه دين الله عز وجل.
وهذه الواجبات تتمثل فيما يلي:
الواجب الأول: تطبيق الدين عقيدة وشريعة على الأمة الإسلامية.
الواجب الثاني: حفظ الدين؛ فالحاكم المسلم هو الحارس الأمين على هذا الدين يرعاه كما يرعى الأب صغاره.
الواجب الثالث: نشر الدين والدعوة إليه عقيدةً ونظامَ حياة لأنه الرسالة الخاتمة التي لا يُقبل من أحد الإيمان بغيرها أو اتباع أي شرع يعارضها.
وحتى نوضح هذه الواجبات لا بد من إدراك القيد المنوط بالحاكم وهو الإسلام أي أن يكون الذي يريد القيام بهذه الواجبات مسلماً، فلا تصح الخلافة لكافر مطلقاً ولا تجب طاعته لقوله تعالى: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾.
وبما أن الحاكم واجب عليه تطبيق دين الإسلام وأحكامه فيجب أن يكون مسلماً معتقداً عقيدته ومتبعاً لشرعه فاهماً لغة خطابه ﴿وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾، العائد إلى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ﴾، فيكون تطبيق الدين كواجب أول على الحاكم المسلم منطلقاً من قوله تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾ فهذا منوط تطبيقه بالخليفة حيث بايعته الأمة ومنحته السلطان ليحكمها بما أنزل الله تعالى، فيكون بذلك التطبيق قد أوجد الإسلام عملياً في حياة الناس وداخل أرض الإسلام.
وإضافة أخرى أضافتها هذه الآية الكريمة من سورة النساء، أنها بينت شرط الإيمان وحدّ الإسلام، فشرط الإيمان أن يحكم الحاكم بما أنزل الله عز وجل ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ﴾، وحدّ الإسلام أن لا يكون في النفس اعتراض على أي حكم نزل به الوحي أو أرشد إليه، فثبوت الإيمان لأي إنسان يزعم بأنه مؤمن هو وجوب تحكيم الدين ولأنه عقيدته وقضيته وأن لا يجد في قيامه بهذا التحكيم أي حرج من أي حكم تشريعي فهو حكم الله تعالى وحكم رسوله ﷺ ولا بد من التسليم به، وأن لا يخالط نفسك من هذه الأحكام أي تردد أو مخالفة للتطبيق أو الاقتناع. وهذا الأمر في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً﴾، فإذا كان هذا الخطاب موجهاً للنبي ﷺ على سبيل الحتم والإلزام وهو نبي الله تعالى، فمن باب أولى أن يتبع المؤمنون حكم الله تعالى في تطبيق شرعه على سبيل الوجوب والإلزام. قال ابن تيمية رحمه الله: "إنه ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله ﷺ فهو كافر، ومن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه عدلاً من اتباع لما أنزل الله فهو كافر أيضاً". ويقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: "إن تطبيق غير الإسلام من الشرائع لا يجوز ويعتبر ذلك خروجاً عن الدين الإسلامي، ولا عبرة بما جاء في هذه القوانين من الأحكام الشرعية الإسلامية لأن هذه الموافقة جاءت مصادفة، وإن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، وهي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداراة، ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام - كائناً من كان - من العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها" (عمدة التفسير).
ويقول الشيخ الشنقيطي رحمه الله في كتاب أضواء البيان: "إن النصوص السماوية التي ذكرناها تظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على لسان أوليائه مخالفة لما شرعه الله تعالى على ألسنة رسله عليهم السلام، وأنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله على بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم".
أيها الإخوة الكرام، إن الوظيفة الأساسية للدولة الإسلامية وعلى رأسها الخليفة هي إقامة الدين وتمكينه في الأرض والقضاء على الشرك والانحراف والفساد؛ وذلك بسياسة أمور الناس وفق ما أنزل الله تعالى من الهدى ودين الحق، أما علماء السلاطين فلا يرون أن القوانين الوضعية انحراف عن دين الله القويم، ولا يرون أنها شرك بالله تعالى وأنها فساد ومنكر، لذا نراهم يأمرون العامة بطاعة هؤلاء الحكام أهل الإجرام. وقد خلص الإمام قاضي القضاة الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية إلى ما يلزم الخليفة الحاكم المسلم القيام به تجاه الدين في عشرة أمور:
1- حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.
2- تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة.
3- حماية البيضة والذبّ عن الحريم لينصرف الناس إلى معايشهم بأمن وأمان.
4- إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك وتحفظ حقوق العباد من الإتلاف.
5- تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة.
6- جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله.
7- جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصاً واجتهاداً من غير خوف أو عسف.
8- تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير ودفعه لمن يستحقه في وقته.
9- استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من أعمال.
10- أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة.
وأما حفظ الدين فهو الواجب الثاني بعد إقامة الدين لأن الخليفة هو الحارس الأمين على هذا الدين كونه المسؤول الأول مسؤولية تامة عن حفظه من كل ما يسيء إليه أو ينتقص منه، لأن الدولة تقوم على الالتزام بالعقيدة الصحيحة والشريعة المنبثقة عنها.
والخليفة أو الحاكم المسلم من أعظم مهامه، منع كل ما يعارض أسس هذا الدين وضبط كل ما من شأنه أن يحدث انحرافات عن الجادة والصراط حتى يبقى الناس في سلامة وأمن على دينهم وأفكارهم حتى قال عمر رضي الله عنه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه يوم وقف للردة: "لولا أنت يا صدّيق لهلكنا"، فقاتل مانعي الزكاة متأولين أو منكرين.
ثم نشر الدين وحمل رسالة الإسلام إلى العالم كواجب ثالث من واجبات الحاكم المسلم حيث إن من عقيدة الإسلام ومسلّمات رسالة النبي ﷺ أن الله عز وجل بعث نبيه ﷺ إلى الناس كافة. وبما أن الإسلام لم يأت للعرب خاصة فقد أمرنا وكلفنا رب العالمين أن ندعو إلى هذا الدين وأن نحمله إليهم بصورة بليغة مؤثرة عن طريق الجهاد، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾. ولقد سمى رسول الله ﷺ الخيل التي تخرج للجهاد "خيل الله"، لأنها تحمل المجاهدين حاملي الدعوة من أجل إعلاء كلمة التوحيد، حيث قال ﷺ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» رواه مسلم.
أيها المسلمون: إن من أعظم واجبات الحاكم المسلم حماية الأحكام الشرعية وتنفيذها وإعطاءها صفة الإلزام وذلك بكونها وحياً من الله تعالى لا يجوز لنا التأخر عليها أو التقدم بل التنفيذ والاتباع.
بقلم: الشيخ سعيد الكرمي (أبو عبد الرحمن)
رأيك في الموضوع