في ذكرى ما يسمى بنكبة فلسطين الخامسة والسبعين، لا بد لنا من معرفة معنى النكبة وتعريفها، ومتى بدأت، والأسباب التي أدت إليها، والتداعيات التي حصلت بعدها إلى يومنا هذا، ثم معرفة كيفية النهوض من هذه النكبة والتخلص من آثارها. والنكبة لغة هي مصيبة تُلم بالإنسان في أعز ما يملك من مال أو نفس. وقد بدأت نكبة فلسطين قبل أن يأتي يهود إليها ويُنشئوا كيانهم فيها، بل بدأت منذ أن قرر الغرب الكافر المسيطر على بلاد المسلمين إنشاء هذا الكيان وذلك في وثيقة تسمى وثيقة كامبل بنرمن، وهو رئيس وزراء بريطانيا، سميت باسمه واعتمدت بعد مداولات ومناقشات بين الدول التي كانت مسيطرة على العالم عام 1907م، وتنص على إنشاء كيان غريب عن أهل المنطقة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وظيفته أن يقسم بلاد المسلمين وأن يمنع التواصل بين الشام في آسيا ومصر في أفريقيا، ويكون هذا الكيان رأس حربة متقدمة في بلاد المسلمين لمتابعة النشاطات التخريبية التي قررها الغرب ضد المسلمين. وتأتي هذه القرارات ضمن حملة كبيرة من الأعمال المتضافرة الخبيثة، التي أدت إلى هدم الخلافة العثمانية وعاصمتها إسطنبول، كونها تمثل المسلمين، ولها تاريخ طويل في تطبيق الإسلام والحفاظ على الإسلام والمسلمين والفتوحات في أوروبا وغيرها، والتصدي لدويلات الكفر التي كانت قائمة في ذلك الزمان (روسيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا...) وذلك قبل أن تقفز أمريكا على الحلبة الدولية. وقد توجت هذه الأعمال بقرار هدم دولة الإسلام رسميا عام 1924م، وكانت فلسطين قد نكبت قبل هذا التاريخ بسبع سنوات، مع نهاية الحرب العالمية الأولى، حين تمكنت جيوش بريطانيا وفرنسا من هزيمة الدولة العثمانية، ودخل الإنجليز إلى فلسطين عام 1917م، حيث سقط المسجد الأقصى تحت الاحتلال البريطاني، وطُرد الجنود العثمانيون الذين كانوا يحرسونه، ثم وعد بلفور، ومعاهدات سايكس بيكو وسان ريمو وغيرها، وهذا هو أصل نكبة فلسطين. وأعز ما كان يملك المسلمون ليست فلسطين، بل هو نظامهم السياسي ودولتهم دولة الخلافة التي كانت تحافظ على فلسطين وفيها الأقصى، وعلى غيرها من بلاد المسلمين، وهذا ما قاله السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله حول المحافظة على فلسطين، حيث رفض رفضا قاطعا أن يهاجر يهودي واحد إلى أرض فلسطين، بعد أن كانت هناك محاولات من ثيودور هيرتزل والصهاينة مع نهاية القرن التاسع عشر، أن يُدخلوا اليهود إلى فلسطين كمهاجرين، وحملوا معهم الملايين: "قولوا لهيرتزل أن يحتفظ بذهبه وملايينه، فإن عمل المبضع في جسدي أهون علي من ذلك، ولكن إذا مزقت دولة الخلافة الإسلامية يوما فإنهم يستطيعون أن يأخذوا فلسطين بالمجان"، وهذا ما حصل!
إذن نكبة فلسطين في أصلها ليست فلسطينية في المقام الأول، بل هي نكبة المسلمين جميعا بضياع دولتهم، وبالتالي ضياع فلسطين، وصيرورتها وحدة منفصلة عن الكيان الإسلامي، فطمع فيها الطامعون، وصدق فيها قول النبي ﷺ: «إِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ مِنْ الْغَنَمِ الْقَاصِيَةَ». فالمسجد الأقصى ليس مسجدا فلسطينيا بل هو مسجد للمسلمين جميعا، وهو أولى قبلتي المسلمين، وثالث مساجدهم التي لا تشد الرحال إلا إليها. ومنذ ذلك الوقت وتداعيات هذه النكبة تترى على المسلمين في فلسطين وغيرها، وتزداد نكبتهم يوما بعد يوم تعقيدا ويزداد الكفار عليهم شراسة، وما نكبة الروهينجا وسوريا والسودان وليبيا وغيرها منكم ببعيد.
وكان من أعظم التداعيات لنكبة فلسطين أن تسلم القضية لأهل فلسطين عبر إنشاء منظمة التحرير عام 1964م، والتي أعلنت فيما بعد كممثل شرعي ووحيد للفلسطينيين عام 1974، وازدادت النكبات وتوالت التداعيات حتى أصبحت من أعقد قضايا العالم، بعد أن نُكبنا من قبل بمهزلة حرب الأيام الستة عام 1967، ثم اتفاقية أوسلو التي أعادت بعض القيادات المستسلمة إلى غزة وأريحا أولا، ثم رام الله وباقي المدن الفلسطينية الأخرى، وما عرف فيما بعد بالسلطة الفلسطينية، ثم انفصال غزة عام 2007، ولا زالت فصول المسرحية مستمرة حتى يومنا هذا، وما خطاب عباس في الأمم المتحدة مؤخرا إلا مؤشر صارخ على ذلك، والقرارات الكثيرة التي اتخذتها تلك العصابة الدولية لم تجد نفعا للقضية، بل ساهمت في تعميقها وتعقيدها، وكما قال الشاعر عن قرارات مجلس الأمن: "أما قراراته حبر على ورق *** إلا قرارا لـ(إسرائيل) ينتصر".
وختاما نقول إن نكبة احتلال يهود لفلسطين هي نكبة أمة إسلامية وليست نكبة شعب بعينه، وهي وليدة للنكبة الكبرى، نكبة ضياع الخلافة، وإن تاريخنا القديم والمتوسط في فلسطين ليشهد أن الأمة قادرة على استعادتها كما فعلت من قبل مع الصليبيين والتتار في أزمنة عمر بن الخطاب وقطز وصلاح الدين. فالنكبة هي في حكام عملاء مطبعين تخلوا عن فلسطين، والنكبة أن يترك أهل فلسطين وحدهم في المواجهة، والنكبة هي تولية قضية فلسطين مسرى الرسول الأعظم ﷺ للكفار يقسمونها كيفما شاءوا، والنكبة أن ترى عموم المسلمين لا يدركون طريق تحريرها حتى يومنا هذا، ولعل مؤتمر القمة العربية الذي عقد في جدة، واستقبال الجزار بشار كزعيم عربي مرحب به في حظيرة بني يعرب مؤخرا، شاهد على حجم النكبات التي نعاني منها والتضليل، وشاهد على محاولة طي ملف نكبة فلسطين، وملف نكبة الشام التي فاقت في حجمها أي نكبة أخرى ألمت بالمسلمين في العصر الحديث.
أما الخروج من هذه الأزمة الخانقة والنهوض من هذه النكبة التاريخية، فلا يتأتى إلا بإرجاع القضية الفلسطينية إلى صعيدها الأصلي وهو الصعيد الإسلامي، ونبذ ما سوى ذلك من أصعدة فلسطينية أو عربية أو دولية، فكلها سراب خادع، واستنزاف للطاقات من غير طائل. ويكون حل هذه المعضلة بوقف العمل بمصطلح "نكبة فلسطين"، وتبني مصطلح "نكبة المسلمين"، ووقف العمل بمصطلح "حق العودة" وإشاعة مصطلح "تحرير فلسطين"، والعمل مع العاملين لإقامة دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، ومبايعة إمام للمسلمين جميعا، يطبق شرع الله في الداخل، ويحمل الإسلام إلى العالم في الخارج. وسيكون من أولى أولوياته قرار تحرير فلسطين والأقصى وباقي بلاد المسلمين المغتصبة، ومن ثم إعادة اللاجئين والنازحين والمهجرين قسرا والمهاجرين طوعا إلى بيوتهم وممتلكاتهم، وتعويضهم عن الخسائر الفادحة التي لحقت بهم في الدماء والأموال وغير ذلك. وما ذلك على الله بعزيز.
بقلم: الشيخ عصام عميرة
رأيك في الموضوع