انطلقت ثورة "الشعب يريد إسقاط النظام" من تونس في 17 كانون الأول/ديسمبر 2010 - 14 كانون الثاني/يناير 2011، وسرعان ما انتشر لهيبها في ليبيا واليمن ثم مصر وصولا إلى الشام. ثورة على الأنظمة الجبريّة القهريّة الحارسة للاستعمار الغربي الغاشم الذي أجهز على دولة الخلافة في بداية القرن المنصرم، وأقصى الإسلام عن الحياة والتشريع والحكم، واستبله المسلمين واستعبدهم وأراد جعلهم ركوبا ذلولا، فقيّدهم بحكام عملاء حفظوا مصالحه وأنظمته المفلسة التي ركّزت نفوذه على البلاد والعباد.
ولم يتوقّف الغرب وخدّامه عن محاولات إفشال الثورات وسرقتها وحرفها عن مسارها واختراقها وتيئيس الشعوب من التغيير، عبر التضليل الممنهج، والترويج لأهداف زائفة كفكرة الإبقاء على النظام والاكتفاء بمجرد تغيير وجوه الحكّام.
فمرّة أخرى، يؤكد الوسط السياسي في تونس أنه مرتهن للخارج وأنه لا علاقة له بالثورة إلا من باب استعمال شعاراتها للحصول على بعض القبول الشعبي، ثم لتحقيق مصالح الغرب، وأن من يصل إلى الحكم تحت سقف الديمقراطية لن يكون إلا مطية لتمرير أجندات الغرب، كائنا من كان.
فبينما يصول سفراء الدول الاستعمارية ويجولون بين مختلف الوزارات ومنها وزارات يُفترض أن تكون سياديّة، ليس آخرها زيارة سفير أمريكا إلى وزارة الداخلية في 17 أيار/مايو 2023 بغرض التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، وبينما تغيب الحكومة في كبرى الملفات، على غرار ملفات الأمن المائي والغذائي والطاقي ذات العلاقة المباشرة بعجز الميزان التجاري، بل تعجز إلى حد الآن عن وضع حلول جذرية لملف النفايات أو مشكلة البنية التحتية المهترئة في المدارس والطرقات أو تفاقم ظاهرة قوارب الموت أو ظاهرة العنف داخل الملاعب أو أسباب تعثر الثورة الرقمية، ويكفي لنشاهد الانبهار الحكومي بالحديث مع الأجانب عن الذكاء الصناعي مثلا، ودوره في تحقيق التنمية المستدامة لندرك حجم الغباء السياسي المستدام الذي يحرك حكومة الرئيس.
وبينما يعجز اللسان عن وصف حالة الجاهزية الحكومية العجيبة للخضوع والارتهان والتفريط في مقدرات البلد وثرواته وفي مقدمتها الثروة البشرية من الأدمغة المهاجرة، نجد الرئيس قيس سعيد يُكرّس حالة البطالة الاقتصادية والعبث السياسي.
فعلى الصعيد الاقتصادي: فإن المتابع لتصريحات الرئيس، يجد أنه يستعمل بعض العناوين الصحيحة المغرية، من قبيل التعويل على الذات وعلى مواردنا الطبيعية، ولكن دون أية مضامين وإجراءات عملية على أرض الواقع تُجسد تلك الشعارات وتحقق سيادة تونس على ثرواتها. بل تسير الحكومة بالتوازي مع الخطاب الشعبوي في تبني نهج الحكومات السابقة نفسه في تعبئة موارد الدولة، والخيار الرأسمالي الليبرالي نفسه في الاقتصاد، وفي تمكين الشركات البترولية الأجنبية من رخص الاستغلال، مع أن الجميع يدرك عجزها عن الهرب من لهيب ارتفاع معدلات التضخم التي يمر بها الاقتصاد العالمي، بل عن مجرد التفكير في تغيير منوال التنمية.
أما على الصعيد السياسي: فإن العبث السياسي قد بلغ ذروته، فالقضاء الآن هو مجرد وظيفة يُجبر فيها القاضي على تصفية خصوم الرئيس خوفا من تصفيته، لا بل تحول القضاء إلى مجرد جهاز تنفيذي للرغبات الرئاسية التي قد تنزل إلى مستوى الاجتماع مع رئاسة الحكومة لتدارس موضوع أغنية شبابية حول المخدرات تسببت في اعتقال بعض الطلبة والمطالبة بإخلاء سبيلهم على الفور.
من جهة أخرى، ورغم تراكم الملفات الحارقة المتعلقة بالأمن القومي على غرار مسألة الهجرة، والأمن المائي والأمن الطاقي وما يتطلبه ذلك من تنسيق إقليمي، يتجاوز الحدود الوهمية، بمنطق العلوم الجيولوجية التي تنتسب إليها رئيسة الحكومة، ومنطق الموارد والثروات الطبيعية التي لا تعترف بحدود ولا بسدود، وهو ما يفتح عيون وعقول الواعين على خيار الخروج من أقفاص الاستعمار، على أمل تحقيق ما في قلوب المسلمين من رغبة في الوحدة على أساس الإسلام.
وأما على مستوى السياسة الخارجية: فإنه فضلا عن تلك القبل الشهيرة التي حظي بها رئيس فرنسا ماكرون على كتفيه، فإن الارتماءات المشبوهة بين أحضان الإمارات والسعودية ومصر ثم أخيرا تطبيع العلاقات مع الطاغية بشار أسد، انصياعا وخضوعا لرغبة أمريكا، كفيلة وحدها بترجمة حقيقة استعمال شعارات الثورة من أجل التمكين للثورة المضادة، ولقتل الرغبة في التغيير لدى الشعوب وخاصة على أساس الإسلام، ما جعل طاغية الشام الذي قتّل وشرّد أبناء شعبه يثني على الرئيس قيس سعيد بعد تأكيده على أن تونس كانت منصة لنشر الفكر الظلامي في المنطقة العربية.
ونقول هنا، إن الرجال مواقف، وإن التاريخ لا يرحم، ولذلك نذكر سيادة الرئيس الذي هرول إلى لقاء ابن سلمان وجزار الشام في السعودية، ورفع من هناك شعار رفع التحديات، بتصريحه للجزيرة يوم 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2018 تعليقا على زيارة ابن سلمان إلى تونس، حيث قال: "ما دام الشعب التونسي الحر يرفض زيارة ابن سلمان إلى تونس، على الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي أن يُنصت إلى شعبه قبل أن يفتح ذراعيه من أجل مصالح ظرفية. فالمبادئ لا تشترى ولا توزن ببراميل النفط".
فهل كان الرئيس يمارس التقيّة يومها أم أن المبادئ قد تم شراؤها بما هو أقل من براميل النفط؟!
في الأثناء، تحاول المعارضة الديمقراطية المتشبعة بالثقافة الغربية توسيع دائرة الاتصال بالدوائر الأجنبية، عسى أن تحظى بدعم مشروط يعيدها إلى الحكم من بوابة انتصار الديمقراطية، حيث يقدم كل طرف نفسه أنه خير ضامن للديمقراطية في تونس، عملا بمقولة أبي نواس في الخمر: وداوني بالتي كانت هي الداء!
وهكذا، يتسابق الوسط السياسي في تونس حكاما ومعارضة على تقديم البلاد على طبق من ذهب للاستعمار، كل حسب جهة ولائه، والضحية في هذا كلّه هو الشعب.
ختاما، ما يجب لفت انتباه الجميع إليه، حكاما ومحكومين، هو أن هذا النظام الفاسد هو الخطر الداهم بل الجاثم على صدورنا منذ إنشاء ما يسمى بدولة الحداثة، وأنه مستعد من أجل بقائه أن يغير جلده ألف مرة، ويضحي بأكباش الفداء كبشا تلو الآخر، فتتم إقالة أعضاء الديوان الرئاسي والوزراء ورؤساء الديوان والولاة والمعتمدين وكل من تجب التضحية به لبقاء النظام، وبقاء الرئيس وجها مزينا للنظام، كما أعلنها صراحة حزب التحرير منذ أول يوم، بل قبل وصول قيس سعيد إلى الحكم. فهل من معتبر؟ وهل من ملتحق بقافلة الخلافة قبل فوات الأوان؟ أم أننا سننتظر أن ينطق أحدهم فيقول: "غلطوني"!
ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.
بقلم: الأستاذ خبيب كرباكة
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع