لم يكن نشوء كيان يهود طبيعياً كأي دولة في العالم، فقد كان تأسيسه قائماً على الجريمة وسفك الدماء، فقد شكلت عصابات الهاجاناه والأرجون وشتيرن النواة الأولى لجيش الكيان، مرتكبة أبشع الجرائم، فقتلت البشر واغتصبت الأرض، وقد حاولت التغطية على ذلك كله بالترويج لكذبة غاية في الإجرام، ساندتها في ذلك القوى الاستعمارية بزعامة بريطانيا في ذلك الوقت، تلك الكذبة التي تقول إن فلسطين أرض بلا شعب، وقد جاء إعلان وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور، الشهير بوعد بلفور المشؤوم، ليصادق على تلك الكذبة، وليمنح الأرض المباركة لتكون وطناً لشذاذ الآفاق، فكان وعد من لا يملك لمن لا يستحق.
والحقيقة أن هذا الاعتداء الآثم من الإنجليز لم يكن ليكون لولا غياب الدولة الإسلامية، إثر هدمها بعد الحرب العالمية الأولى وتقسيم تركتها بين القوى الاستعمارية وفي مقدمتها بريطانيا وفرنسا، فقد شكلت دولة الخلافة ممثلة بالسلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله حصناً منيعاً ضد أطماع الغرب في بلاد المسلمين، كما قطعت كل السبل التي تؤدي إلى تحقيق أحلام اليهود، وأطماعهم في الأرض المباركة فلسطين، الأمر الذي كان واضحاً وصريحاً في كلمات السلطان عبد الحميد، التي عبر عنها في رسالته إلى هرتزل زعيم الحركة الصهيونية آنذاك، والتي جاء فيها "انصحوا هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع فإني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين، فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية، ولقد جاهد شعبي في سبيل هذه الأرض وروّاها بدمه، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت دولة الخلافة يوما فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن.. ولكن التقسيم لن يتم إلا على أجسادنا".
أمام هذه الرسالة القصيرة، والكلمات المعدودة، أدركت القوى الاستعمارية الغربية من جهة، ويهود من جهة أخرى، أن دولة الخلافة تشكل العقبة الكأداء أمام تحقيق مآربهم في المنطقة، فكان الزواج النكد بين المشروع الغربي الاستعماري والمشروع الصهيوني، فقد تعاهدوا على إسقاط الخلافة، وقد تحقق لهم ذلك للأسف عبر الخيانة والعمالة من بعض العرب والترك، والتي لا زلنا نعاني آثارها، ونذوق مرارتها إلى يومنا هذا، ذلاً وهواناً، وتمزقاً وضياعاً وفرقة في ظل حكام العار المتربعين على صدورنا؛ فمن جهة يعملون على رعاية مصالح أسيادهم المستعمرين في بلادنا، ومن جهة أخرى يشكلون سياج الحماية لكيان يهود، بمنع تحرك الأمة وقواها الحية نحوه لاقتلاعه والقضاء عليه.
ولقد مورس بحق قضية فلسطين الكثير الكثير من الكذب والتضليل، بهدف تقزيمها حتى أصبحت مسخاً في يومنا هذا. فمن قضية إسلامية متعلقة بملياري مسلم، تم حصر العلاقة بفلسطين بالعرب فقط، ومن ثم تم تقزيم القضية في إطار تمثيل منظمة التحرير، الذي يعتبر أكبر طعنة تعرضت لها قضية فلسطين، حيث حُصرت في الإطار الوطني، الذي وصل بها إلى مستوى لا حدود له من السقوط والانحدار، في ظل سلطة تقدس التنسيق الأمني (العمالة) مع الاحتلال، وفصائل متصارعة لا تملك أي مستوى من الرؤية السياسية، فضلاً عن فقدانها لقرارها كونها مرتبطة في وجودها وتحركاتها بأنظمة العمالة والخيانة المحيطة بفلسطين المفرّط منها والممانع.
بالرغم من كل ما يتمتع به الكيان من إمداد بأسباب الحياة والقوة من القوى الغربية، وبالحماية والحراسة من الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين، إلا أنه لا يزال يعيش عقدة الفناء، ولدى قادته وسكانه إدراك جماعي بعدم شرعية وجودهم على هذه الأرض المباركة، وكل محاولات البحث والتنقيب عن أدلة لإقناع ذواتهم، ومن ثم إقناع العالم بأحقيتهم بالأرض باءت بالفشل، وباتوا يتحسسون رؤوسهم، ويعدون أيامهم، حتى إن الكثير من قادتهم ونخبهم الفكرية والسياسية أعلنوا عن خشيتهم ألا يتمكن كيانهم من الوصول إلى عقده الثامن.
إن حتمية زوال كيان يهود لا تخضع للنقاش والتأويل، فقد قرر القرآن الكريم ذلك متوعداً يهود بالفناء ﴿وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ﴾، وما هي إلا مسألة وقت حتى يقع هذا الوعد ويتحقق، فمهما تجبر يهود وتغطرسوا، فإن كل يوم يمر عليهم يقربهم إلى حتفهم، ويتوقف الأمر على مدى تشكل القناعة لدى الأمة الإسلامية بمسؤوليتها عن تحقيق هذا الوعد، ولا شك بأن هذه القناعة متوفرة في تيار عريض في الأمة الإسلامية، ودليل ذلك عدم خضوع الأمة لكل مشاريع الترويض للقبول بالكيان، فجماهير الأمة ترفض التطبيع مع كيان يهود بشكل مطلق، ولكن ما هو مطلوب بجانب رفض وجود الكيان واحتلاله للأرض المباركة، يجب على الأمة إدراك كون تلك الأنظمة الحاكمة في بلادنا، هي الجدار الذي يفصلها عن الكيان ويمنع الوصول إليه والتخلص منه، ومن باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لزم على الأمة إزالة هؤلاء الحكام، وفتح الطريق نحو فلسطين دون عوائق.
وهنا نحن لا ندعو إلى شيء مستحيل أو إلى العدم، فإن الأحداث أثبتت المرة تلو المرة هشاشة كيان يهود وضعفه، وعدم قدرته على المواجهة في أي ميدان حقيقي، كما أن الأمة تملك من مقومات القوة المادية والبشرية لا سيما جيوشها، ما يجعلها قادرة على القضاء على كيان يهود بأقل التكاليف، وحتى لو كان الثمن باهظاً فالأمة وأهل فلسطين مستعدون، فهم لم يبخلوا طوال 75 سنة من نكبة فلسطين في بذل الغالي والنفيس للدفاع عن الأرض المباركة والمحافظة عليها وعدم التفريط بها.
ونحن على يقين، والإيمان يملأ قلوبنا بأننا سنعيش قريباً وعد الله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْـمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً﴾ والله نسأل أن نكون من شهود وجنود يوم النصر الموعود.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع