وبالفعل بلغت نشوة الحزب بعد هذه الانتخابات ذروتها، إذ شعر أنه أصبح صاحب السلطة في لبنان بلا منازع، فوق ما امتاز به عن سائر القوى السياسية بامتلاكه قوّة عسكرية تضاهي جيش لبنان الرسمي، ولطالما استفاد من قوته هذه في مواجهة كل من يشكل خطرا على مصالحه ونفوذه بشكل من الأشكال. إلا أن هيمنته هذه على السلطة الرسمية كانت مرهونة بدوام التحالف الذي ارتكز إليه. فقد ارتكزت السلطة التي تربع على عرشها على ثلاث قوائم، هو يمثل إحداها، والثانية هي تيار ميشال عون، والثالثة هي تيار سعد الحريري. فإذا ما كُسرت إحدى هذه القوائم انهار التحالف وانهارت بالتالي سيطرة الحزب على السلطة، أو على الأقل ارتخت قبضته عليها. وهذا ما حصل فعليا بعد أشهر قليلة من نشوة الانتصار، وتحديدا سنة ٢٠١٩م.
فلم يمض وقت طويل إثر ذلك التفاهم بين إيران وإدارة أوباما قبل أن يتولى ترامب السلطة مطلع عام ٢٠١٧، لينقلب على ما أنجزه سلفه من تفاهمات مع إيران. فقد عمد على الفور إلى الانسحاب من طرف واحد من الاتفاق النووي ومن كثير من مقتضياته، وأعاد تشديد الحصار الاقتصادي عليها، بل ومرغ أنفها بالتراب بقتل رأس محورها العسكري في المنطقة قاسم سليماني سنة ٢٠٢٠.
أما بشأن لبنان فكانت بوادر انقلابه على ذلك التفاهم حين استعجل القطاف قبل أوانه، فأوعز إلى حاكم السعودية ابن سلمان بأن يحتجز رئيس حكومة لبنان سعد الحريري ويجبره على تقديم استقالته عبر رسالة مصورة من الرياض. وكان واضحا أنّه أقدم على هذه الخطوة دون تنسيق مع المؤسّسات الدستورية الأمريكية، ولا مع الدولة العميقة، ولا حتى مع وزير خارجيته، وأدى الضغط الدولي الذي كانت تزعمته فرنسا للإفراج عن الحريري وعودته عن طلب الاستقالة واستمراره في منصبه عامين آخرين قبل أن يستقيل بإيعاز من إدارة ترامب نفسها.
ففي عام ٢٠١٩، وبعد ظهور بوادر انهيار مالي في لبنان، عمدت فرنسا كعادتها إلى الدعوة لعقد مؤتمر دولي لدعم لبنان ماليا، تحت عنوان مؤتمر سيدر. وأسفر المؤتمر عن جمع حوالي ١٢ مليار دولار تضخ في الاقتصاد اللبناني للحؤول دون انهياره. إلا أن أمريكا ضغطت على الدول المانحة لتؤجل دفع ما تطوعت به حتى يتخذ لبنان إجراءات جدية في مكافحة الفساد الذي يؤدي إلى نهب لصوص السلطة لهذه الأموال. وبطبيعة الحال أدى حجب هذه الأموال إلى الانهيار المالي الذي أرادته أمريكا للبنان، من أجل وضع حد لسلطة حزب إيران. وأدت بواكير الانهيار المالي في لبنان إلى خروج أعداد هائلة من الناس المنتفضين إلى الشوارع في كافة المدن الكبرى قاطعين الطرق الدولية فيما يشبه ثورة شعبية. فجاءت الظروف المواتية لدفع الحريري إلى تقديم استقالة حكومته بحجّة النزول عند رغبة الشعب. ولم يستطع (الثنائي الشيعي) نصر الله وبري - وكذلك حليفهم ميشال عون - إخفاء غضبهم الشديد حينها وارتباكهم من الاستقالة المفاجئة لحليفهم سعد الحريري الذي كان أحد أهم ركائز عهدهم، وفشلت كل محاولاتهم لثنيه عن الاستقالة، فانفرط عقد التحالف الذي ارتكز إليه الحزب في القبض على السلطة في لبنان. وفاقمت استقالة حكومة الحريري حدة الانهيار المالي إلى درجة أن فقدت الليرة اللبنانية ٩٥٪ من قيمتها. ودخل لبنان في حالة من الفوضى السياسية والاقتصادية والأمنية مع اشتداد حدة المظاهرات والاحتجاجات التي اتسمت غالبا بقدر كبير من العنف وسقطت فيها أعداد من القتلى والجرحى. وبدأت جماعة أمريكا على الفور بالترويج لطرح تسمية رئيس حيادي لحكومة تتشكّل من وزراء تكنوقراط لا ينتمون إلى أي من التيارات السياسية النافذة في لبنان. ثم بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون بداية تشرين الثاني/نوفمبر سنة ٢٠٢٢ وعجز البرلمان عن انتخاب رئيس جديد بسبب التوازن المستجد فيه بانسحاب تيار المستقبل من حلفه مع الحزب والتيار العوني أوعزت أمريكا إلى نواب المعارضة بالدعوة إلى انتخاب رئيس حيادي، وكان قائد الجيش وما يزال هو المرشح الأبرز والأكثر جدية، إلا أن حزب إيران بقي متمسكا بمرشحه سليمان فرنجية حتى تلقى تلك الضربة الشادخة على رأسه في أيلول/سبتمبر الماضي. وقد مضى أكثر من سنتين حتى الآن ولبنان بلا رئيس، تديره حكومة تصريف أعمال مستقيلة منذ حوالي سنتين ونصف.
كلّ هذه الظروف جعلت من الكيان اللبناني خرقة بالية، ومع ذلك لم يبد الحزب أي ليونة للتخلي عن سلطته، آملا في صفقة بين أمريكا وإيران تحفظ له اليد العليا فيه، حتّى ازدادت الأوضاع حرجا بحصول عملية طوفان الأقصى في غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023م واضطرار الحزب لإعلان ما سمّاه حرب المساندة، وهي الحرب التي لم تغنِ أهل غزّة من إجرام الاحتلال، وإنّما كانت الغاية الوحيدة منها أن تحتفظ طهران وحزبها بزعامة محور الممانعة. وكان غرورهما يوحي لهما أنّ كيان يهود لن يضيف إلى حربه في غزّة حربا مع المحور، لما يتمتع به المحور من توازن رعب وردع معه. ولكنّ موقفهما كان يزداد حرجا كلما زادت وتيرة اغتيال الكيان لقادتهما العسكريين في لبنان وسوريا وإيران نفسها، دون أن يجرؤ المحور على الردّ المناسب، إلى أن جاءت الصدمة الكبرى بين 17 و27 من أيلول/سبتمبر الماضي، وهي الأيام التي شهدت تفجير آلاف العناصر من الحزب الذين يحملون أجهزة البيجر وأجهزة الاتصال اللاسلكي، ثم اغتيال زعيم الحزب حسن نصر الله. ولم يكن ليخطر في بال إيران ولا حزبها أن تتّخذ أمريكا هذا القرار الضخم بضربة قاصمة تشدخ نافوخ الحزب.
لقد كانت هذه الضربة المزلزلة ثم ما أعقبها من حرب همجية استهدفت تدمير قرى شيعية بأكملها، فضلا عن استهداف جميع قادة الحزب، دليلا على أنّ القرار أكبر كثيرا من أن يكون قرار كيان الاحتلال، ثمّ جاءت مواقف أمريكا الداعمة لهذه الحرب الشرسة دليلا على أنّها هي التي قرّرت قصم ظهر الحزب الذي سلمته قبل سنوات قليلة فقط مقاليد السلطة في لبنان. وعادت من جديد إلى مطالبها التي كانت تطرحها منذ إسقاط حكومة الحريري سنة ٢٠١٩ وفراغ كرسي الرئاسة سنة ٢٠٢٢: انتخاب رئيس للبنان وتسمية رئيس للحكومة، وتشكيل حكومة من وزراء تكنوقراط لا يمتون بصلة إلى الوسط السياسي في لبنان، ولكن هذه المرة تحت لهيب النار ووطأة الدمار والقتل والتشريد، فضلا عن السعي لتقويض قدرة الحزب العسكرية وإبعاد تهديده عن كيان يهود عند الحدود مع فلسطين المحتلة.
عضو المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
رأيك في الموضوع