بعد الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية في آذار/مارس 2023م، استؤنفت العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين على أمل أن تؤسس هذه العلاقات لحل حقيقي ودائم للمشاكل والمنازعات التي أدت إلى توتير العلاقات بينهما، وأن هذا الحل سيقود إلى تعاون شامل وفعال على الصعيد الأمني والسياسي والاقتصادي، وأن ينشئ علاقات طبيعية رسمية وشعبية بين الطرفين.
وتأتي هذه التفاهمات المفاجئة بعد عقود من الصراع الذي كان طابعه طائفياً ومذهبياً وسياسيا، والذي ألقى بظلاله على العلاقة التنافسية الشديدة بين الدولتين، تلك العلاقة التي تخطّت مدى الصراع الثنائي وانتقلت إلى التنافس الإقليمي على المكانة والهيمنة والنفوذ، وليس على المستوى العربي والشرق أوسطي وحسب، وإنما على مستوى الفضاء الإسلامي بأجمعه.
وفي خضم ذلك الصراع المحتدم تدخلت السعودية في اليمن وخاضت حرب "عاصفة الحزم" الخاسرة ضد إيران وحلفائها من الحوثيين، وأدت تلك الحرب إلى تصعيد منقطع النظير بين إيران والسعودية، صاحبته حملات إعلامية عنيفة من كلا الطرفين ضد بعضهما بعضا.
ولما لم تنجح السعودية في كسب حرب اليمن، اضطرت إلى المُهادنة والتصالح بدفع من أمريكا، فهدأت بذلك وتيرة الصراع قليلاً، لكنّ التوتر بقي سيد العلاقات بين القيادتين. ثم بعد موت الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي صعد إلى رئاسة الدولة مسعود بزشكيان الذي يوصف بالاعتدال بحسب المقاييس الغربية، وبزشكيان هذا معروف بسياسته التي تسعى إلى تخفيف التوترات في السياسة الخارجية وذلك من أجل رفع العقوبات الدولية عن بلاده، ومن أجل تنفيذ أجندته الإصلاحية، فهو محسوب على التيار الإصلاحي، ويوجد له داعمون سياسيون كثر في طهران ومن كلا الجناحين المحافظ والمعتدل من مثل الرئيسين السابقين محمد خاتمي وحسن روحاني، ومن مثل وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف الذي أعيد تعيينه في الطاقم السياسي الجديد لبزشكيان.
وبمقدور بزشكيان بدعم وإسناد من هذه الشخصيات المؤثرة المؤيدة لعلاقات حسنة مع دول الجوار لا سيما السعودية، بمقدوره الحد من تدخل الحرس الثوري في السياسة الخارجية، ومع أنّها مهمة شاقة وليست سهلة، لكنّها ممكنة كونها مدعومة أيضاً من المرشد علي خامنئي نفسه، وهو الذي كان قد أعطى الضوء الأخضر لحكومة الرئيس السابق إبراهيم رئيسي بتوقيع اتفاقية المصالحة بين السعودية وإيران في بكين العام الماضي.
فالسعي السعودي إلى بناء علاقات متوازنة مع إيران يأتي من باب احتواء الخطر الإيراني على السعودية التي فشلت بالحروب في دفعه. وإلى جانب السعي السعودي هناك رغبة إيرانية في التجاوب مع هذا المسعى مردها تحسين صورتها أمام الرأي العام الخارجي، ولجم اندفاع الحرس الثوري في التغول على الدولة داخليا امتثالاً لطلب أمريكا استبعاد الحرس الثوري عن مركز اتخاذ القرار في إيران.
والمرجح أن يتمكّن الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان من تحييد الاتجاه العدواني للحرس الثوري وللمليشيات المسلحة الموالية لإيران في المنطقة، وأنْ يضبط تحركاتها، ويكبح جماحها، ويقيد نشاطاتها العسكرية ذات الطابع الطائفي المتطرف، وهو بالذات ما تريده أمريكا من القيادة الإيرانية الحالية والمستقبلية.
وإنّ إجراء مناورات بحرية مشتركة في البحر الأحمر بين السعودية وإيران بوصفهما خصمين إقليميين رئيسيين، وعدوين لدودين سابقين، لا شك أنّه يُعتبر نقطة تحول استراتيجية في علاقاتهما الخارجية، والتي أتت بعد وقت قصير كنتيجة لتوقيع اتفاق بكين.
لم تكن لتحصل كل هذه التغيّرات والتوافقات بين السعودية وإيران لولا موافقة ودعم أمريكا، فأمريكا هي التي تريد تحسين العلاقة بينهما في هذه الفترة بالذات كون الصراع السابق قد استنفد أغراضه، وكون المنطقة تمر اليوم - ومنذ أكثر من عام - بحروب طاحنة يشنّها كيان يهود في فلسطين ولبنان، ولا تحتمل المنطقة اندلاع حروب جديدة.
والسعودية اليوم واقعة بين مطرقة كيان يهود التي تدفعها دفعاً للتطبيع المجّاني المحرج والمذل، وبين سندان إيران التي تتربص بها الدوائر، لذلك كان لا بد من عدم انجراف السعودية نحو التطبيع المجّاني بشكل فج وغبي، كما كان لا بد أمريكياً من إنهاء حالة الصدام المُزمن بين السعودية وإيران لكي تلعب السعودية بالتالي دور الموازن بين كيان يهود وإيران، وهو أيضا ما تريده أمريكا لتشكّل به عنصر ضغط على الأطراف الثلاثة.
رأيك في الموضوع